المنشور

قراءة أخرى في مستجدات واقعنا



تأسيساً
على وقائع “السيل الجارف” من العنف الأصولي المندفع بقوة في أكثر من مجرى
عربي وإسلامي بصورة مذهلة، هل لنا أن نتساءل عما إذا كان العالم العربي
وجزء لا يستهان به من العالم الإسلامي، قد أعدا العدة وشارفا على الدخول
بمحض إرادتهما في عصر الظلمات على غرار ما حدث لأوروبا في عصور سحيقة أكلها
النسيان؟


وقبل
الاسترسال ومحاولة إيجاد إجابات عن هذا السؤال الجوهري والأسئلة المتفرعة
عنه، لعل من المفيد هنا استذكار ماهية عصور الظلام التي تعارف عليها
الأوروبيون وأعطوها المسمى الإنجليزي ذائع الصيت لدى مؤرخي تاريخ الحضارة
الأوروبية (Dark Ages)،
أي القرون المظلمة الواقعة بين سنة 500 وسنة 1000 ميلادية، والتي تميزت
بانتشار الانحطاط الفكري والتقوقع على الذات وتواري الحياة المدنية في
ثنايا العصبيات والهوس الديني والتطاحنات والحروب الدينية ذات الخلفيات
الإقطاعية التسلطية .  


تُنبئنا
سرديات مصادر التاريخ السحيق والحديث أنه كلما فاض الكيل، وبالمعنى
الفلسفي حين تصل الحالة التراكمية الاجتماعية إلى ذروتها، فإن كمية
“الذَّرّات” المتكاثرة عددياً (المتراكمة) والدائرة في فلكها (في فلك
الحالة التراكمية)، وتحت ضغط هذا التزاحم التراكمي، سوف تُسَرِّع من تحولها
تلقائياً إلى حالة نوعية أخرى مغايرة تماماً لما كانت عليه في فترة سكون
وكمون الذرات الخادعيْن والسابقين .


ويمكن
بكل يسر إسقاط هذا المذهب النظري الخاص بدراسة وتحليل المسيرة التطورية
للمجتمعات البشرية وظواهرها الاجتماعية على الحالة الساكنة -تطورياً –
للمجتمعات العربية، والتي رتبت حدوث النقلة التي أُعطيت اسماً كودياً هو
“الربيع العربي” بعد أن تجاوزت الفجوة بين العناصر “أ” (قوى الإنتاج أو
الموارد البشرية والعلم والتكنولوجيا وفنون ومعارف الإدارة الحديثة)
والعناصر “ب” (سكون تموضعات الناس وعلاقاتهم بالنسبة إلى كل أنواع الأصول
والموارد المادية والحيازات) في المعادلة التي تقيس درجة التوازن والاهتزاز
في تطور المجتمعات .


مع
الاستدراك هاهنا بأن ذلكم التحليل للحالة/الظاهرة لا يستبعد مطلقاً الدور
المقرر للعامل “الخارجي” في “تحفيز” وإطلاق شرارة النقلة التحولية، إنما في
حدود دور العامل الذاتي الموظف (بتشديد وكسر الظاء) للعامل الموضوعي الذي
يشكل محور المعادلة . وما حصل هو أن هذا العامل المساعد الذي لعب دور
الصاعق (Detonator)
قد تحول إلى لاعب أساسي في خلط أوراق تداعيات المرحلة الانتقالية لتصعيد
قوى اجتماعية بعينها لصدارة المشهد الجديد الحاكم للسياسات الكلية والجزئية
.


وهذا،
باعتقادنا، ما أحال الولادة الطبيعية للنقلة النوعية إلى الحالة موضوع
المعادلة، في صورة ما سمي بالربيع العربي، إلى فوضى “خلاقة” هي التي أنتجت
ذلكم الزخم المتدافع المنفلت العقال للحركات الأصولية ذات الخلفيات
الأيديولوجية الإقصائية التي تستخدم العنف المسلح وسيلةً لتحقيق غاياتها .
فمن الاستحالة بمكان إطلاق الفوضى “الخلاقة” من دون فقدان السيطرة على
الخزين الوفير من الهويات والعصبيات الفاعل منها والكامن في ظل وجود وفرة
لا حد لها من الفاعليات الناشطة والأخرى المتحفزة لهجر حالة الكمون لدى أي
فرصة لائحة، للاندفاع تهوراً للتعبير عن ذواتها وأطماعها المستترة، وبضمنها
بطبيعة الحال الأصوليات المستعدة للذهاب إلى آخر الشوط في هذا المضمار .


والنتيجة
المذهلة للدخول المتطفل للعامل الخارجي في مسار نقلة التحول الفاصلة
بأدوات الفوضى “الخلاقة”، هي وصول تلك الجماعات السلفية إلى بعض مواقع
السلطة أو على مقربة منها في غير بلد عربي، ما أفضى إلى محصلة في غاية
الغرابة .


وفي
ذلك بعض التفسير لكيفية إفلات “الربيع العربي” من قبضة القوى الاجتماعية
التي لطالما ضحت بالغالي والثمين من أجل انجلاء ليل الاستبداد الطويل؟ وكيف
أفلت زمام الأمور من القوى الشبابية التي تقدمت الصفوف في تحدي أنظمة
بوليسية معتقة .


فالحراك الشعبي الذي انطلق أساساً  تحت تأثير اختلال معادلة قانون التطور المجتمعي  بهدف
وضع حد لعقود من الاستبداد والفساد، انتهى به الأمر إلى إنشاء حالة لا
تختلف في المضمون عن الحالة الزائلة من حيث استمرار تأمينها لبقاء وانتظام
ذات البنى المؤسسية الراعية لماكينة الاستبداد والفساد .


وما
يزيد الطين بلة أن هذه “الحالة” الجديدة ومقاربة إدارتها الكلية تتساندان
بجماعات سياسية إسلامية متطرفة طالما عُرفت بعدائها الشديد والسافر
للتعددية بشقيها الثقافي والسياسي وللرأي الآخر بصفة عامة، وهي جماعات كان
يُنظر إليها حتى الأمس القريب على أنها قوى إقصائية وتكفيرية تشكل خطراً
داهماً على المجتمعات الحاضنة لها، فإذا بها اليوم في موقع من يصنع ويقرر
مصير هذه المجتمعات، حيث أتاح لها وجودها في بعض مواقع السلطة أو بالقرب
منها فرصة بدء حملة ترويجية واستعراضية من أجل فتح جبهة صراع ضد الدولة
المدنية ورموزها بما يفضي إلى تطهيرها وإفراغها من كوادرها بتهمة الانتماء
إلى الليبرالية .


وبهذا
المعنى فإن هناك خشية حقيقية من أن تفضي مخرجات الفوضى “الخلاقة” التي
نعرف، إلى إدخال العالم العربي في حقبة تيه تكون الردة الحضارية عنوانها،
ويكون البطش بالآخر المختلف أحد أكثر فصولها عتمةً . ذلك أن العداء للآخر –
وليس فقط عدم احترامه – لابد أن ينتهي به المآل إلى استخدام العنف بكافة
صوره سبيلاً لتحقيق الأجندات الخاصة المضمرة وشبه المعلنة .