المنشور

تحولاتُ اليسارِ الإيطالي

ولدَ اليسارُ واليمينُ المتطرفان الإيطاليان في ظل أزمةِ الحربِ العالمية الأولى ولعجزِ الحركات الاشتراكية الديمقراطية أن تكونَ قوة رادعة لفظائع هذه الحرب وبسببِ انقسام جماعاتها إلى قومياتِهم المتحاربة.

اليسارُ الشيوعي واليمينُ الفاشي خرجا بأطروحاتٍ متضادةٍ تمثلُ أقصى اليسار وأقصى اليمين، وتعتمدُ على اضطرابِ أحوال الطبقات العاملة وظروفها المعيشية السيئة، وهكذا فإن تيارات البرجوازية الصغيرة المثقفة والمسيَّسة، قدمتْ حلين متضادين كليا، وحجمتا القوى الاشتراكية الديمقراطية وصعدتا اليمين المسيحي الذي سوف يكون الحاضنةَ الكبيرة للجمهور خلال عدة عقود تالية بعد الحرب العالمية الثانية، جامعا بين مُثُلِ الكنيسةِ المحافظةِ التقليدية وسيطرة رأس المال الكبير.

الجوهرُ الاجتماعي المعتمدُ على الفئاتِ الصغيرة القلقة المضطربة ذات الانتماءات الحادة بين اليمين واليسار يعبرُ عن تحويلِ الخيال السياسي وفرضه على الجمهور، وإسقاط مقولات ايديولوجية حادة على الواقع، ولهذا فإن اليسارَ بصيغتهِ الشيوعية كان انعكاسا لغموضِ الماركسيةِ السياسي وعدم تبلورِ وعيها في مسائلٍ محوريةٍ مرتبطة بالتاريخ العالمي، وهي قفزةٌ برجوازية صغيرة لأقصى اليسار ولهذا فإن القضيةَ المحورية التي كانت تتمثلُ بإقامةِ جبهةٍ عريضة من القوى الاجتماعية و(الإنسانية) لوقف تقدم الفاشية للسلطة بُترتْ بسببِ تشكيلِ وجهةِ نظرٍ لا تقل مخاطرة عن الفاشية. ولهذا فإن الأفكارَ السياسيةَ الجموح الناتجة عن الاضطرابات الرهيبة التي سببتها الحربُ العالميةُ الأولى كانت تدفعُ نحو حربٍ عالمية ثانية أكثر ضراوة.

لم يكن موسوليني سوى شخص تافه عدواني ضحل الثقافة، عاشَ على الجريمة وظل على الحدود الشائكة والتاريخية كمجرمٍ ومطلوبٍ للعدالة، ولكنه قفزَ لبحرِ الاضطرابِ السياسي بعد الحرب وألف عصبة من المحاربين القدامى بعد الهزيمة.

( لم يكن العمل متوافرا للجنود العائدين من الحرب، والأسعار عالية ولم يكن باستطاعة الفقراء شراء حوائجهم. وكانت هناك الاضراباتُ في المدن وتشكلتْ العصاباتُ من الفقراء وبدأتْ بحرقِ بيوت الاغنياء، وكان الجميعُ خائفا من شيء ما، وقد استشعر موسوليني مزاجَ الشعب وحالته النفسية وكان يرى غضب الجنود)،(دعا موسوليني إلى اجتماع وفيه أسس حزبا سياسيا سماه الحزب الفاشستي. لكنهم لم يتصرفوا كحزبٍ سياسي وانما كرجال عنف وعصابات وقد لبسوا القمصان السوداء. قال لهم موسوليني ان عليهم معالجة مشاكل إيطاليا وان عليهم أن يكونوا رجالا اقوياء. فعندما يكون هناك اضراب عمالي يأتي الفاشيست ويوسعون أولئك العمال ضربا وفي صيف 1922 كان هناك اضرابٌ كبيرٌ في المواصلات وقد عجزت الحكومة عن التعامل مع ذلك ولكن الفاشيست سيروا الحافلات والقاطرات وانهوا الاضراب. ووصل الامر الى أن طلب الاغنياء مساعدة الفاشيست لحمايتهم. نجح الفاشيست في ذلك. وقد هزموا الشيوعيين في الشوارع وأرغموهم على شربِ زيت الخروع. وكان الشعب يطالب بزعيم قوي مثل موسوليني ليقود البلاد. وقال موسوليني إنه الوقت المناسب للاستيلاء على السلطة)، موسوعةُ ويكيبيديا.

كان ظهورُ الحزبِ الشيوعي الإيطالي هو حالةُ مثقفين من الفئة الوسطى الصغيرة يطرحُ بعضُ مثقفيها أفكارا تحليلية اجتماعية جزئية، ولم تكن لحظة التاريخ الراهنة مفهومة لهم، من خلال النموذج القادم من روسيا بالقيام بثورة عمالية، ويعطينا أنطونيو غرامشي، المثقفُ البارزُ من الرعيلِ الأول، مادة على مراقبةِ هذا الواقع من خلال هذه الأدوات الفكرية. لقد ساهم في تأسيس الحزب سنة 1921، لكن تمَّ اعتقالهُ مع تنامي الحركة الفاشية. إن تحليلاته التفصيلية لأنماطِ المثقفين وتنوع انتماءاتهم عبر التضاريس الإيطاليةِ الدقيقةِ هي غارقةٌ في تفاصيلِ الواقعِ الملموس المحدودِ تاريخيا، وتطرحُ المهمات العاجلة بدون أفق بعيد، وأهمها نقل المثقفين للتصوراتِ الاشتراكية إلى داخل العمال، وبالتالي تحويلهم لقوةٍ سياسية تقودُ للسيطرة على المجتمع وتحويل العمال لأداةٍ لسيطرة البرجوازية الصغيرة المتمركسة هذه:(فالطبقة العاملة شأنها شأن البرجوازية قبلها، قادرة على أن تنمي من داخل صفوفها مثقفيها العضويين. ووظيفةُ الحزبِ السياسي، سواء كان طليعيا أم جماهيريا هي أن يكونَ قناة لنشاط هؤلاء المثقفين العضويين) من كتاب دفاتر السجن.

إن تحليل غرامشي لفئات المثقفين هو مفيد لكن غير مقروء داخل التشكيلة وهو يسحب تحليل للينين عن المثقفين ويضعه في عالم إيطاليا، أي يتناول ظرفا شرقيا شموليا ويدخلهُ في عالم إيطاليا الديمقراطي، ويحدثُ ذلك بسبب اللحظة الوطنية الإيطالية حيث التدهور الاجتماعي المؤقت، وتصاعد الفوضى والشمولية. ويعبرُ غرامشي في ذلك عن عدمِ فهم مستويي الرأسماليةِ العالمية الغربية المتطورة والشرقية المتخلفة.

إن أفقَ الاشتراكيةِ البعيد يقودُ لضياع خطى الحزب الشيوعي الإيطالي بابتعادهِ عن تكوين الجبهة العريضة ضد الفاشية حتى تحلّ عليه ضرباتها الرهيبة، وبعدها صعدتْ المهماتُ الوطنيةُ الديمقراطية وهكذا فإن الفاشيات كانت تعيدُ الماركسيين سواء في إيطاليا أم في الاتحاد السوفيتي إلى حقائقِ الأرضِ وإلى المهام الوطنيةِ الديمقراطية وعبرها يمكن أن يهزموها بالتحالف مع الرأسمالية الغربية (عدوة الشعوب سابقا) ومع العديدِ من القوى المسيحية والاشتراكية، وهو الأمر الذي جعل من حزبهم الحزب الشيوعي الإيطالي بعد الحرب من الحزبين الكبيرين الرئيسيين، ولكن كان الثمنُ رهيبا مكلفا، كما كانت عمليةُ التخلص من الميراث الشمولي طويلة وصعبة

أخبار الخليج  14 نوفمبر 2012


 
تحولاتُ اليسارِ الإيطالي (2-2)


كان خروجُ الحزب الشيوعي الإيطالي قويا بعد الحرب العالمية الأولى هو جزءٌ من التضحيات الجسام الوطنية التي بذلها للدفاع عن الوطن والديمقراطية ضد الفاشية.

لكن جماهير الشعب كانت بحاجة الى إعادة ترميم الوطن وارتفاع مستوى حياة الشعب ولهذا فإن أطروحات الحزب الاشتراكية لم تلق صدى على مدى عقود، وعجز فيها الحزبُ عن الوصول الى السلطة لتشكيل النظام الاشتراكي الموعود، فيما تقبل الشعبُ الشيوعيين كحكامٍ كثيرين للبلديات والأقاليم، أي بصفةِ التنظيم مساهما في تطوير النظام الرأسمالي الديمقراطي.

لم يستطعْ الحزبُ الخروجَ من قيوده الايديولوجية السوفيتية الروسية، وبدت اللافتاتُ الكبرى عن الحركةِ الشيوعية العالمية ذات الايديولوجيا الموحّدة تضطربُ وتتقلقلُ بين عقدٍ وآخر، وقد عبرتْ تلك اللافتاتُ عن الصلاتِ التنظيميةِ والمساعدات التي كانت تُعقدُ بين الحزب وروسيا، ولكن الحزبَ الشيوعي الإيطالي صار حزبا جماهيريا كبيرا وذا نفوذ وطني وإمكانيات، كما أن أوروبا الغربية بدأت تتحولُ إلى كيانٍ رأسمالي موحدٍ عالمي متقدم ينافسُ الولايات المتحدة الأمريكية أقوى قوة اقتصادية في العالم.

كانت الايديولوجيا المُصدرةُ من روسيا، أيديولوجيا رأسماليةِ الدولةِ الدكتاتورية، لم تُواجه من قبلِ عقلا ماركسيا متقدما في إيطاليا، ولم تسعفْ جرامشي أدواتهُ التحليلية الجزئيةُ المحدودةُ في فهمِ الإشكالية التاريخية، وكان انفصالُ الحزب الشيوعي الحاد عن الاشتراكية الديمقراطية وخطأ هذا الانفصال، وصعوبة الاعتذار عن كل تاريخ الانشقاق بين الحركتين، وسيطرة البيروقراطية الحزبية المستفيدة من هذا التشكيل السياسي الطويل، هذا كله جعل من الصعب القيام بنقدٍ ذاتي عميق واسع، ولكن الاختلافات الموضوعية بين الجسمين السياسيين الاجتماعيين، جسم روسيا الغارقة في سيطرةِ رأسماليةِ الدولة الروسية القومية المهيمنة المتآكلةِ تاريخيا والعاجزةِ عن التحولِ لمجتمعٍ ديمقراطي حديث، وجسم أوروبا الغربية المتطورة نحو آفاق أكبر من الحداثة والديمقراطية والتوحد، كانت تَظهرُ بأشكالٍ عفوية جزئية وتحدثُ صداماتٍ بين الكيانين.

ظهر ذلك في تصاعدِ مجموعة الشيوعية الأوروبية الرافضة لمركزٍ روسي مهيمن تعبيرا عن تباين مستويي التطور التاريخيين. ومنذ سنة 1976 وفي مؤتمر الأحزاب الشيوعية في برلين تصاعدتْ الخلافاتُ بين الشيوعيين الأوروبيين وروسيا، وعبّر زعيم الحزب الشيوعي الإيطالي برليجوير عن عدم وجود مركز واحد للحركة، وأكد أن النظرية الماركسيةَ لم تواكب تحولات العالم، وأكد تمسكه بحرية الصحافة وحق الاضراب في النظام الاشتراكي، (الأورو شيوعية والتوازن الدولي الجديد، عبدالعاطي محمد، السياسة الدولية 1977).

كانت هذه مسائل سياسية صغيرة تعبرُ عن مدى الجمود في الأحزاب الشيوعية الأوروبية نفسها، وتمحورت في كثيرٍ منها على مسائل السياسة الخارجية: كرفض وجود قيادة مركزية للحركة، وغزو افغانستان المستهجن، وغياب حريات المبدعين والمنشقين في روسيا، ورفض الصراعات داخل(المعسكر الاشتراكي) وغيرها من المسائل التي عبرتْ عن ضيقِ أفق هذه الأحزاب في الوقت الذي كانت كرةُ الثلجِ الشمولية تتدحرجُ متجهة لضرب الأسس العامةِ للنظام السوفيتي.

كانت القداسةُ الموجهة لنظام رأسمالية الدول الشمولية الروسية تعبرُ عن ضياعٍ نظري هائل، حتى إذا حدثت الكارثةُ وتفجرتْ شظاياها على العالم، كان اوان الإصلاحات العميقة داخل هذه الأحزاب قد فات زمنه، ولهذا رأينا الانتقادات تتوجه لجزئيات معبرة عن تفكير محدود، لأن أغلب الأسس التي أُقيمت عليها هذه الأحزاب في الأممية الثالثة بقيادة لينين ثبت بطلانُها لكن لم تتم مراجعتها، وتكشف التاريخ بشكلٍ مرعب فليس ثمة اشتراكية ولا دكتاتورية بروليتاريا، بل نظامٌ آسيوي «نهضوي» استبدادي.

وأمام هذه التحولات العاصفة كان الجثومُ في عقلية الأممية الثالثة مدمرا، ولهذا فإن الحزب الشيوعي الإيطالي ذو الجماهير الكبيرة امتلأ بانشقاقات عديدة وحدثت انقساماتٌ كبيرة داخله وظهرت أسماء لا يمكن متابعتها بدقة عبر هذا العرض الموجز، وقفزت أحزابٌ يمينية للسلطة في إيطاليا واسهمت قوى قريبة لليسار فيها، ولكن كل المقاربات(الشيوعية) للديمقراطية الغربية لم تصل الى العودة للاشتراكية الديمقراطية والنضال الإصلاحي التدريجي والقبول بالتعددية وفهم أن التشكيلة الرأسمالية العالمية تحتاج الى عقودٍ وقرون كي يظهرَ البديل من داخلها، ودور الأحزاب التقدمية تغيير ظروف حياة شعوبها الراهنة والدفاع عن الطبقات العاملة وأوضاع الأمم والشعوب المتداخلة معها لتتحقق تحولات ديمقراطية مستمرة.


أخبار الخليج  
15 نوفمبر 2012