دقِّقوا معي في هذه العبارة: «إن الإنسانية كالجيوش في المعركة،
تقدُّمها مُرتبطٌ بسرعة أبطأ أفرادها». كلمة قالها الأديب الكولومبي الكبير
غابرييل غارسيا ماركيز في روايته «الحب في زمن الكوليرا»، وهي تعبِّر عن
شكل التدافع البشري وتطور الإنسان. والحقيقة أنها تعبيرٌ دقيقٌ، استطاع
المترجم السوري المبدع صالح علماني، أن يُعرِّبها من الإسبانية بشكل بارع
جدّاً.
وعلى رغم أن ماركيز، عنى ما عناه فيها ضمن سياق حبِّ
فلورنتينوا إريزو لـ فيرمانا داثا في تلك الرواية؛ فإنها تصلح أن يُقارَب
بها على أشياء كثيرة. فالصحيح، أن هناك ارتباطاً عضويّاً، ما بين السرعة
والبطء، وما بين التقدم والتأخر. وهما أمران متقابلان، يحصلان في العديد من
المواقع بلا حصر. وبما أنهما كذلك؛ فلا غرابة إن وجدنا ذلك في الدول، إن
لم تكن هي أصل ميكانيزماتها.
فالدولة ليست حالة من التقدم المطلق،
ولا البطء المطلق ولا التقدم أو التأخر المطلقان. هي نِسَبٌ من كل ذلك
تتشارك فيما بينها، وهو ما يجعلها أكثر تعقيدًا من أيِّ شكل وإطار مادي.
وإذا ما تمَّ ضمُّ تركيباتها الثلاثة: الأرض، الشعب والنظام السياسي؛ يصبح
الأمر أكثر وضوحًا من حيث صعوبة عملها. صعوبةٌ تكمن في مراعاة كل تلك
التركيبات بطريقة صحيحة ومتوازنة.
وعندما نراجع أوضاع الدول في
العالم؛ فإننا نجد أن هناك مجموعة مختلفة من النماذج. فهناك نموذج الدولة
في جنوب أوروبا ووسطها وشمالها وصولاً إلى الولايات المتحدة الأميركية حيث
العالميْن الإنجلوساكسوني والفرانكفوني. وهناك نماذج نجدها عند اللاتينيين
أو في روسيا الاتحادية، أو في الشرق حيث اليابان والصين والهند ودول
النمور. وهناك أيضًا، نموذج الدولة في منطقة الشرق الأوسط، العربية منها أو
الأعجميَّة: تركيا، إيران، باكستان وغيرها من الدول الشبيهة.
ولأننا
رَبَينَا في المنطقة العربية، التي تعيش هزَّات سياسية عنيفة منذ السابع
عشر من ديسمبر/ كانون الأول من العام 2010 بعد حادثة سيدي بوزيد التونسية؛
فإنه يعنينا الحديث أكثر عن مفهوم الدولة في هذه المنطقة أكثر من غيرها.
والحقيقة، أن الدولة العربية، تشوَّهت كثيرًا منذ الاستقلال في منتصف القرن
المنصرف، وصولاً إلى هذه اللحظة، بفعل عدم التحديث في النظام السياسي.
عدم
التحديث المذكور وتداعياته جعلنا نؤمن بأن أكثر الأشياء سوءًا هو اعتماد
الدولة العربية على الحسِّ الأمني في تسيير شئونها، وأيضًا، على عدم تحرير
النقاش داخل العقل العام من هيمنة الدولة. هذان الأمران، أصبحا سِمة أصيلة
في الدولة العربية مع شديد الأسف. وربما ذكر ذلك الفيلسوف الفرنسي لويس
ألتوسير، عندما أشار إلى طبيعة الأجهزة التي تسَيّرها الدولة.
فـ
ألتوسير يذكر، أن هناك نوعين من الأجهزة داخل الدول: الأول: أجهزة القوة
المادية كالقوات العسكرية المسلحة (الجيش) والشرطة، والثاني: هي الأجهزة
الآيدلوجية، كالمؤسسات التعليمية (المدرسة/ الجامعة) والمؤسسات الدينية
(الكنيسة/ المسجد/ المعبد)، ووسائل الإعلام، التي من وظيفتها احتكار العنف
الرمزي الممارَس من السلطة الحاكمة تجاه المجتمع.
وبالإشارة إلى
الجهاز الأول، والمتعلق بالقوة المادية؛ سنلاحظ، أن اعتماد أي نظام سياسي
على هكذا أمر، سيضعه أمام معادلة قد لا يدركها في أوانها، لكنه سيكتشفها
على المدى البعيد، وهي «مقايضة الشرعية بالطاعة». فالنظم الأمنية، عادة ما
تسعى إلى الهيمنة وتحقيق الطاعة المجَابَة من الناس عبر الفرض، لكنها لا
تتحسس أنها بذلك؛ تقوم بخسارة الشرعية في سبيل طاعة وهميَّة كارتونية
مصنوعة الكَسْر، تتهاوَى أمام أي اختبار جِدِّي حتى ولو كان بسيطًا. حصل
ذلك في دول عدة بشكل مريع، سواء في أوروبا الشرقية أو حتى في عالمنا العربي
والإسلامي.
ليس ذلك فحسب، بل إن ثقافة الإرغام تؤدي آليًا إلى
استنبات بؤر على جسد الدولة والمجتمع، تسعى إلى المواجهة والصِدام، كَوْن
الثقافة الأمنية المتبعة، قد حوَّلتها إلى خصم حقيقي لكنه مكتوم، يتحيَّن
فرصة الوثوب والانقضاض على الحكم. بل ربما أن ذلك الفرض عبر العصا الأمنية
يجعل الدولة مكشوفة الغطاء، أمام أي استشراء سياسي وأمني وحتى فكري قد يأتي
من الخارج، كما حصل بالنسبة إلى الأيرلنديين مع الفرنسيين نكاية
بالانجليز، وكذلك الإيطاليين.
أتذكر، أن الفيلسوف الفرنسي الشهير
ميشيل فوكو (1926 – 1984) كان يتحدث عن ضرورة تحويل السلطة إلى خارج مفهوم
الإكراه الذي يُمارَس على غير الحاكِمين، أو الذين لا يملكونها مثلما كان
يقول. وإن السلطة الحقيقية هي التي تتحوّل إلى عملية استثمار واستناد
متبادل ما بين الحاكم والمحكوم في التصدي للمخاطر المشتركة سواء من الخارج
أو من ذاتيتهما حتى.
فمن غير المعقول، أن تتحوَّل السلطة إلى عصا
غليظة، وتضاعف من استخدامها للعنف المادي والرمزي الذي تملكه، ثم تسعى إلى
نيل شرعية شعبية! هذا الأمر محال. بل وحتى الدول التي سَعى حكامها إلى
الاستناد على هويات فرعية كالطائفة وصلوا إلى طريق، وجدوا فيه أنفسهم وقد
تآكلت من بين جوانحهم كلّ المساحات الجغرافية وحتى الفضاء، ولم يبقَ أمامهم
سوى الرحيل. حَدَث ذلك حتى في العصبيات القومية في مناطق البلقان وفي
منطقة الشام أيضًا.
أما الجهاز الثاني، المسمَّى بالآيديولوجي
(وتحديداً وسائل الإعلام)، فإن تركه عرضة للاستيلاء الرسمي، يُعرِّضه لخطر
داهِمْ. كيف؟ فهذا النوع من الأنشطة في كيان الدولة متروك بالأساس لإنتاج
حالة اجتماعية متقدمة، وتنفيس روحي منضبط، وأفكار رائدة، يقوم بإنتاجها
التدافع البشري الطبيعي. هذا التقدم والانضباط والريادة، لا يمكنه أن يتحقق
بطريقة صحيحة إلاَّ إذا تُرِكَ، وبقيت الدولة تراقبه بالنَّظَارَة فقط، من
دون أن تقحم نفسها في تفصيلاته.
ليس ذلك فحسب، بل لأن هذا الشطر من
القوة الرمزية، يبقى من الحقوق اللصيقة بالمجتمعات التي تميل فطرتها
وجموحها نحوها. وحين تجد من ينازعها على هذا الحق وهذه الفطرة، يصبح الأمر
وكأنه استيلاء غير شرعي تجب مقاومته بكل الوسائل. يضاف إلى كل ذلك، أن
القوة الرمزية التي من المهم أن تكون ضمن حقوق الناس الطبيعية تبقى مروحة
اجتماعية مهمة، تقوم بمقام التنفيس والمواجهة الناعمة مع القوة المادية
التي تستخدمها وتملكها الدولة، وهو جزء من التوازن الدقيق واللازم لصناعة
مجتمع آمن وسليم.
هذا الأمر غاية في الأهمية، بل هو الأصل في الكثير
من الأزمات التي يمر بها عالمنا العربي، الذي يجب أن يُصَان لكي ينال
مكانته الطبيعية أمام العالم.