المنشور

لسنا مضطرين للاختيار الانتحاري – د.علي فخرو

من بين أصعب القضايا التي ستواجهها مجتمعات ما بعد ثورات وحراكات الربيع
العربي الناجحة، قضية نوعية ومقدار وسلاسة التوازن بين حاجات ومتطلبات
الفرد العربي من جهة، وبين متطلبات وسلطة المجتمع من جهة ثانية.

والواقع
أنها قضيةٌ متفجّرةٌ الآن في شوارع مدن مصر وتونس وغيرهما في شكل تصادمات
عنيفة بين بعض المتشددين الإسلاميين وبين بعض من يصفون أنفسهم
بالليبراليين.

وإذا كانت المصادمات حالياً حول حفلات الغناء والرَّقص
أو حول لباس المرأة ومحلات بيع الخمور أو حول بعض مظاهر السياحة
وممارساتها، فإنها ستنتقل في المستقبل إلى قضايا أعقد وأكثر إثارةً للجدل
والاختلاف. ذلك أن جذور هذا الموضوع تتعلق أساساً بالآتي: هناك فرد يريد أن
يمتلك أكبر قدر من الحرية الفردية بشأن مسلكه الشخصي وحركته في المجتمع
وعلاقاته مع الآخرين وما يؤمن به من عقائد وأفكار، وفي المقابل هناك مجتمعٌ
يضع مرجعيات وضوابط لتنظيم العلاقات بالنسبة للأفراد والمؤسسات من أجل ما
يعتبره كبحاً للشّطط وبناءً للسّلم الأهلي، وهو يقوم بتلك المهمّة من خلال
سلطة الدولة.

هذه المواجهة بين حدود ومقدار حرية الفرد وبين ضوابط
وسلطة المجتمع هي قديمة قدم تواجد المجتمعات البشرية، وهي قد مرّت في أشكال
من الإحن والمحن في كل الأزمنة والأمكنة، ولم يستطع أي مجتمع الوصول إلى
المعادلة المثالية التي تضمن للفرد حريته وللمجتمعات حقوقها.

ولعلّ
أكثر من حلّل وكتب الكثير وجرَّب إيجاباً وسلباً بالنسبة لهذا الموضوع هم
أهل حضارة الغرب، ذلك أن الحرية الفردية تحتلُ مكاناً كبيراً في ثقافتهم
وذلك منذ بداية حداثتهم، بل إنها أصبحت صنماً مقدّساً يعبد ولا يمسُّ،
وقيمة مطلقة لا سقف لها في ثقافة ما بعد الحداثة الغربية الجديدة. وقد تمّ
كل ذلك على حساب الروابط العائلية والاجتماعية من تعاضد وتراحم وتعاون
وتقاسم للخيرات، فكان طبيعياً أن تقود تلك النظرة الأنانية المنغلقة على
الذات إلى قبول قيام نظام اقتصادي رأسمالي متوحش لا يخضع إلا لمنطق السوق
وتلبية رغبات الفرد حتى ولو كانت جامحة عبثية.

من هنا الطّرح الواسع
الحالي في دوائر الفكر الغربية للطريق المسدود الذي وصلت إليه مجتمعاتهم
بسبب هيمنة مفاهيم الحرية غير المنضبطة وشبه المطلقة، وعلى الأخص في حقل
الاقتصاد والمال، وذلك في مقابل ضعف الروابط الاجتماعية الإنسانية بين
الفرد ومؤسسات المجتمع من جهة، وبين تلك المؤسسات مع بعضها البعض من جهة
ثانية. ويحذّر البعض إلى أن عدم حلّ تلك المعادلة من قبل التنازلات
المعقولة من قبل الجميع سيمهّد الطريق لقيام أنظمة حكم شمولية متعصّبة
قامعة، أو سيؤدّي إلى تفتُّت المجتمعات واهترائها من الداخل ونكوصها إلى
حالات التوحُّش اللاّإنساني والصّراعات المدمّرة.

أنطمة ما بعد
الثورات والحراكات العربية الناجحة تستطيع أن تتعلّم الكثير من تجربة الغرب
هذه، سلباً وإيجاباً، لتجُنّب مجتمعاتها وشعوبها ارتكاب بعض المبالغات
والانحرافات التي طبعت التجربة الغربية، وفي الوقت نفسه لتخرج مواطنيها من
حالات التهميش والإذلال والقمع التي عاشها الفرد العربي عبر قرونٍ من
التخلّف.

في الماضي اتجهت بعض المجتمعات الغربية نحو الفاشستية
والنازية والشيوعية الشمولية لتحل إشكالية المعادلة التي نحن بصددها، وفي
الثلاثين سنة الماضية اتجهت نحو رأسمالية السوق المتوحّشة غير المنضبطة
بقيم وقوانين، لكنها فشلت في كلا الحالتين عن إيجاد التوازن المطلوب بين
الفرد والمجتمع. وستكون كارثةً لو أن أنظمة السلطة في مجتمعات ما بعد
الثوارت اضطرت الشعوب العربية، بسبب الأخطاء والمبالغات والشّطحات التي
ترتكبها بعض دوائر هذه الأنظمة، اضطرتها إلى أن تختار بين مجتمعات تقوم على
حرية لا تضبطها قيم وأخلاقيات وقوانين ديمقراطية متوازنة عادلة، وبين
مجتمعات سلطوية دكتاتورية فاسدة تدّعي لنفسها حماية الفضيلة واستقرار
المجتمعات والسّلم الأهلي.

سيكون ذلك خياراً انتحارياً في كلا
الحالتين. وفي اعتقادي أن في التراث الفكري العربي الإسلامي الرَّصين غير
السُّلطاني وغير المبتذل، وفي فكر وتجارب الآخرين، ما يمكن أن يجنّبنا
الوصول إلى ذلك الاختيار الانتحاري المفجع.

علي محمد فخرو
صحيفة الوسط البحرينية