المنشور

خطآن إزاء التحول الديمقراطي



في
الكثير من البلدان العربية التي عانت من حكم الفرد أو الحزب الواحد، ومن
غياب الانتخابات أو من تزويرها، أزف الوقت، بعد متغيرات عام ،2011 لإجراء
انتخابات توافرت على مقادير معقولة من النزاهة وعدم التزوير بشهادة
المراقبين الدوليين، لكن مخرجات هذه الانتخابات “النزيهة”حملت إلى رئاسة
الجمهورية أو الحكومة، فضلاً عن المجالس التشريعية، بقوى وأفراد لا يمكن أن
يصنفوا في خانة القوى المؤمنة بالديمقراطية، فهي نتاج منظومات فكرية
شمولية، غير عصرية، ومعادية للديمقراطية، مبنى وفكراً، حتى لو كانت استخدمت
هذه الديمقراطية قاطرةً لها إلى السلطة .


ستبرهن
التطورات التي تلت ظفر هذه القوى في الانتخابات على صحة هذا القول، وعلى
جدية مخاوف القوى الأخرى التي حذرت مما ينتظر مجتمعاتها من مخاطر القوى
الظافرة، ولنا في التطورات الراهنة في مصر وتونس مثال، وجاء مضمون التسجيل
المسرب عن لقاء زعيم حركة النهضة التونسية راشد الغنوشي مع ممثلي التيارات
السلفية في بلاده، ليكشف عن الوجه الحقيقي للحركة التي صنفت بأنها الأكثر
اعتدالاً بين نظيراتها العربيات، لنجد أن خلف القشرة الخارجية البراقة يقبع
مضمون إقصائي، أبعد ما يكون عن فكرة الحداثة ووجهتها .


إزاء
ذلك نحن أمام أطروحتين، إحداهما لا يخفي أصحابها حنينهم إلى الأنظمة
المطاحة في البلدان المذكورة، بحجة أنها على مساوئها كانت أفضل ممن جاؤوا
بعدها، على الأقل من زاوية عدم التعدي على الحريات الفردية والمدنية، فهي
لم تسعَ إلى فرض نمط عيش متزمت على الناس بالقسر، وهو قول لا يخلو من
الصحة، لكن أصحابه يغفلون عن حقيقة أن ما تجنيه الشعوب اليوم على أيدي
الأنظمة الجديدة هو الثمرة المرة كالعلقم لنهج الاستبداد الذي دام عقوداً
ودمر مواقع الحداثة في المجتمع وهمّشها وأفرغها من محتواها، وعطل الممارسة
الديمقراطية الكفيلة بخلق الوعي الديمقراطي الذي لا يتشكل إلا عبر هذه
الممارسة التي من خلالها نختبر قابليات الناس لأن يحسنوا استخدام
الديمقراطية، حتى تصبح هذه الديمقراطية ثقافة وتعليماً نتلقاهما في كل
مفاصل الحياة، بما في ذلك في غرف البيوت وفصول الدراسة . 


ويغفل
أصحاب هذا الرأي عن حقيقة أن الأنظمة المنهارة موضوع الحنين وهي تهمش
مواقع الحداثة وقواها، كانت تشجع وتمالئ القوى المتزمتة والمحافظة، بل إنها
جعلت منها مخالب قط ضد القوى التقدمية والقومية، حتى جاءت اللحظة التي
ترسّخ نفوذ المتزمتين والإسلامويين، فاخترقوا بنى المجتمع ومواقع النفوذ
فيه، وتعززت إمكاناتهم المادية والتعبوية، بحيث باتوا القوة الأفضل تنظيماً
وجاهزية لتنقض على المجتمع والدولة في اللحظة المناسبة .


أما
الأطروحة الثانية فيذهب أصحابها إلى القول إن هذه الموجة الإخوانية،
والإسلاموية عامة، هي من القوة والتأثير، فليترك للناس امتحانها في الواقع،
حتى يصلوا في نهاية المطاف إلى قناعة بعجزها عن حل مشكلاتهم وتحسين
أوضاعهم، فينصرفوا نحو اختيار البديل . لكن يعيب هذا الطرح نزعته
الاستسلامية أمام هذه الموجة المدمرة التي ستعيدنا عقوداً إلى الوراء،
والحق أن التطور الموضوعي للظاهرة الإسلاموية مصيره الإخفاق، لكن وعي الناس
بهذا لن يتحقق تلقائياً إنما بعمل مثابر، حيث على قوى الحداثة استنهاض
طاقاتها، وهي ليست قليلة أبداً، من أجل تقصير مخاض التحول الراهن وتحويله
إلى المسار الذي يستجيب لمصالح أوطاننا في الكرامة والتقدم والتنمية وتوجيه
الثروات لمصالح الشعوب .