يكثر الحديث في الظروف العربية المستجدة عن دور ما يوصف ب “التيار الليبرالي«، ولكن يغلب على الكثير من هذا الحديث طابع سياسي مبتذل، فرغم أن الآمال تبدو كما لو أنها متجهة أو معلقة على دور هذا التيار، لكنه ذاته لا يظهر أنه في مستوى هذه الآمال، ويفتقد في الغالب الشجاعة الضرورية في الدفاع عن فكرته، ربما بسبب هشاشة الأرضية الاجتماعية الفكرية التي ينطلق منها في غياب برجوازية وطنية قوية مستقلة عن الدولة، وفي الظروف الصعبة اختار من يدعون بالليبراليين اليوم الانكفاء والابتعاد عن العمل السياسي المباشر، وحين نشأت ظروف لعودة حد أدنى من الحياة الحزبية، فإن ورثة الليبرالية العربية القديمة لم يظهروا الاستقلالية والحزم اللذين وسما أسلافهم .
ليس خافياً على المراقب أن بعض “التيار الليبرالي”في كثير من الحالات هو اليوم أسير لعبة سياسية من الأنظمة العربية التي كانت في وقت سابق قد شجعت التيارات الإسلامية والمذهبية لتواجه اليساريين والقوميين، فلما اشتد ساعد الإسلاميين وقوي عودهم وأصبحوا خطراً على هذه الأنظمة، صار الحديث يكثر عن ضرورة التيار الليبرالي لمواجهة خطر “التطرف الإسلامي«، وهذه مصيدة ينساق إليها من يصفون أنفسهم بالليبراليين إن هم حاصروا مهمتهم في الاستجابة لحاجة الحكومات، وإلى هذا يمكن أن نعزو هامشية الدور الذي اضطلعت به التيارات الليبرالية في التغييرات التي شهدها العالم العربي، حيث بدت كمن بوغت بها، ولم تستطع أن تجد لنفسها الدور المنشود منها في قيادة وتوجيه هذه التغيرات، خاصة أنها بسبب تقاعسها في مكافحة استشراء الفساد والاستبداد لم تعد تحظى بثقة القطاعات الأوسع من الناس، التي انتظرت من يقودها، فوجدت الساحة تكاد تكون خلواً على التيارات الإسلامية، التي وإن خلعت على نفسها دور المعارضة، لكنها لا تملك برنامجاً للمستقبل كذاك الذي يجدر بالليبراليين أنفسهم أن يقدموه .
التطرف الإسلامي والتعصب المذهبي ينطويان على مخاطر كبيرة جديرة بالتصدي لها، والتيار الليبرالي معني بذلك ولا شك، وهذا ما يدل عليه سياق التطورات في عدة بلدان عربية اليوم، خاصة تلك التي شهدت تغير الأنظمة فيها، كمصر وتونس وليبيا وغيرها، ولكن على هذا التيار أن يظهر في المقابل شجاعة في مواجهة أوجه الفساد والتسلط في ممارسات الحكومات وعبثها بالمال العام وفشلها الذريع في تحقيق تنمية مستقلة مستدامة وحقيقية، واستمرار قمعها للحريات، وأن يظهر وفاءه للفكرة الليبرالية الأصلية القائمة على الإيمان بالتعددية الحزبية والفكرية وباقتصاد السوق، وهذا يتطلب منه مواجهة شجاعة للفساد والتعسف لا أن يخدع نفسه بأن مهمته تنحصر في مواجهة التيارات الإسلامية إرضاء للسلطات، المسؤولة بدرجة كبيرة عن صعود هذه التيارات وتمكينها في المجتمع والدولة .
إن صعود التيارات الإسلامية ظاهرة مركبة ومعقدة تحتاج إلى دراسة مستقلة وافية، ومواجهتها تتطلب معالجة التربة الاجتماعية السياسية المسؤولة عن هذه الظواهر من خلال الإصلاحات السياسية العميقة، ومن خلال محاربة استشراء الفساد وأشكال التمييز الاجتماعي كافة، ووضع حد للتواطؤات الضمنية بين الحكومات وبين التيارات المتشددة، عبر إشاعة الثقافة العصرية في مضامينها الإنسانية والروحية العميقة في أنظمة التربية والتعليم وفي أجهزة الثقافة والإعلام ونشر قيم التسامح والاعتدال وحرية الرأي والرأي الآخر واحترام حقوق الإنسان وصون كرامته .