الأنظمة العربية، وبشكل أساسي الأنظمة السياسية الجمهورية التي وقعت
فيها ثورات، وبالحالة التي نراها الآن، لا تعفي الأنظمة الملكية من
مسئوليات متشابهة، من قبيل الفشل في تحقيق المطالب العادية للناس، والفشل
الاقتصادي والبطالة، وضعف الأداء والفساد، وسرقة الأموال العامة والهزائم
السياسية أمام الأعداء، وحتى في العلاقة مع الأصدقاء، مع تراجع الدور
وانتشار المشكلات في الداخل وحول الإقليم.
نشاهد هذا في مصر وتونس،
كما نشاهده أيضاً في أنظمة ملكية أخرى، وحتى لا أضع تفرقة كبيرة، نحاول أن
نفهم الجذور التاريخية، إذ النظام السياسي في هذه الأنظمة تحوّل إلى نظام
أقلية، أب وابن وأخ وابن عم وأقرباء وأصدقاء، وتحوّل إلى مركزية شديدة
وتوريث. وقضية التوريث كانت مؤثرة في الأنظمة التي وقعت فيها الثورات، وإن
صح التعبير الأنظمة الرأسمالية الليبرالية المتوحشة، بمعنى بيع القطاع
العام إلى القطاع الخاص دون ضوابط ودون أخلاقيات، ودون تدقيق أو منافسة
حقيقية صادقة، تسمح بأن يكون هذا البيع حقيقياً. فقد تمّ البيع من النظام
إلى النظام، من النظام إلى من يعملون معه أو من أقربائه، وهذه إشكالية
أخرى. وهذه العملية فشلٌ في بناء دولةِ مساءَلةٍ ومسئولية، فلا فصل بين
السلطات، ولا سلطة مستقلة في عملية المساءلة على كل الأنواع والمستويات.
الثورات
التاريخية في العالم جميعاً ربما تأتي بعد فشل حقيقي في محاولة الإصلاح،
وأنا من الذين يقولون ان الدول التي لم تقع فيها ثورات مازالت لديها فرصة
الإصلاح، وإذا نجحت في هذا الإصلاح هناك فرصة أن توفر على نفسها إمكانية
الوصول. بمعنى أن الشعوب التي ثارت لم تكن في البداية تريد الثورة، وأن
الشعوب التي قامت لم تكن في البداية تريد أن تصل إلى هذه المواجهة وبهذا
الشكل، وإنّما كانت تريد إصلاحاً هادئاً مضموناً. الرئيس حسني مبارك عندما
وعد بالإصلاح في العام 2001 – 2002، لو قام بتحديد مدة الولاية؛ ولم يحول
مسألة الورثة إلى جمال مبارك؛ وأوقف الأحكام العرفية، وعمل مصالحة وطنية مع
التيارات الأخرى في المجتمع، وأدخل قطاعات من الشباب، وأصلح الحالة
البرلمانية، لوصل بمصر إلى موقع أفضل واستطاع أن يدخل التاريخ، كمصلح بلا
ثورة.
فشل وعود الإصلاح في الدول العربية، يؤدي عادةً إلى أن تتطور
الأمور، كما حدث في سورية بعد مجيء بشار الأسد وإطلاقه الوعود بالإصلاح،
وانتهى بفشل ربيع دمشق. وأحد الأسباب التاريخية أن هذا النوع من الأنظمة
كثيراً ما لا يرى الحقيقة، ويركّز على ذاته وأمنه واستمراره، وهنا تكمن
الإشكالية وصعوبة الإصلاح. فهو إذا دعا إلى اجتماع، اعتقد أن الكل معه،
ويتبين خلاف ذلك، كما حصل مع تشاوشيسكو. فإذا كان الحاكم لا يسمع ولا يناقش
ولا يساءل، ويركز فقط على الجانب الأمني، فكيف يعرف الحقيقة؟
وهذا
ما أدّى إلى تمادي الأنظمة في تزوير الانتخابات والتنقيح المفاجئ للدستور،
كما وقع في مصر، ما يعتبر إهانةً كبيرةً إلى المجتمع. ثم يستمر التمادي في
انتهاك الحقوق، إلى أن يصل الوضع إلى حالة معينة من التعبير المفاجئ
الغاضب. ولكن عندما ننظر إلى الجذور التاريخية للثورات أو الربيع العربي،
فإن كل هذا يمكن أن يحدث في مجتمع ما ولا تقع ثورة، لكن جاءت عوامل إضافية،
من ذلك وسائل التواصل الاجتماعي التي خلقت وعياً، فلماذا نحن هكذا بينما
غيرنا مختلف عنا؟ ولماذا يتمتع غيرنا بطريقة مختلفة؟ وجاءت هذه الحالة من
المعرفة على أرضية نمو جيل جديد عربي، يمثل 60 إلى 70 في المئة من المجتمع
العربي، وهذا الجيل الجديد بدأ يرى العالم بطريقة مختلفة عما تقوله وسائل
الإعلام والتلفزة، وبدأ الشباب يتساءلون ويتحدثون مع بعضهم البعض بعيداً عن
أجهزة الرقابة، وبعيداً عن الشمولية، وبعيداً عن الممنوع.
هذا
الإطار الجامع تفاعل مع الجيل الجديد الذي فجّر هذه الثورات، ولم تفجرها
الأحزاب التقليدية ولا الجيل السابق. الجيل السابق عمل ودفع ثمناً، ولكن
الأجيال الصاعدة أخذت المبادرة وجرّت الجميع معها، بينما كان الجميع
متخوفاً من أن ينجر من البداية. جاء كل ذلك مع نمو الوعي بحقوق الإنسان
ودور المواطن ومسألة اللاعنف وطرق التغيير ومواجهة القوة بوسائل شعبية.
عامل
آخر ساهم في هذه الجذور التاريخية للثورات العربية، وهو أن العالم المحيط
بنا يشكل ديمقراطياً، فنحن لسنا في الخمسينيات حيث كان ثلثا العالم مشكلٌ
دكتاتورياً أو شمولياً، وكان عدد الدول الديمقراطية قليلاً. وقد وقعت ثورات
ديمقراطية عديدة في العالم، وهي تصل إلينا الآن، وبالتالي هو تطور تاريخي،
لأن الشعوب تريد أنظمة تقدم لها أجوبة وحقوقاً وعدالةً. تريد رئيساً ورئيس
وزراء ووزيراً يتغيّرون.
في الوعي المسلم، برز النموذج التركي، فهل
الأتراك أحسن منا؟ فهم مسلمون أيضاً ويعانون من مشاكل التخلف نفسها؟ وكيف
نجحت تركيا في التحول إلى قوة إقليمية وقوة عالمية. وبالمثل كيف تحوّلت
البرازيل؟ ربما كان الشاب المصري سابقاً يقارن وضع مصر أحسن من سورية أو
أفغانستان فيقول: دعنا على ما نحن فيه. أما الآن فيقارنها بتركيا
والبرازيل. هذه الأبعاد ساهمت في تشكّل الوعي.
طبعاً الثورات لا تصنع
وإنما تأتي نتيجة عوامل تاريخية، ومن عمق التاريخ والتناقضات والصراعات.
وتأتي تلك اللحظة الخاصة، بإطلاق الشرارة، فمن توّقع أن البوعزيزي إذا أحرق
نفسه سيحصل ما يحصل؟ وهل عرفت أجهزة الشرطة والاستخبارات في الاسكندرية
انهم إذا قتلوا خالد سعيد وأخفوا الأدلة، سيكون هناك مليون على صفحة
الفيسبوك يرددون «كلنا خالد سعيد». وهذا ما ينتج عنه ثورة بالمحصلة دون أن
تدرك الأجهزة ذلك.
عندما تتكلم مع الثوريين المصريين في ميدان
التحرير، يقولون لك: كنا ننزل التحرير ونتعرض للضرب ونقاد للشرطة، وفي
المرة الأخيرة امتلأت الساحة بنص مليون مواطن، يؤمنون بأن الحرية «عيش»
وحرية وعدالة، ولم يفكر الناس بإسقاط النظام أو تفجير ثورة، فالثورة ليست
عملية سهلة، وهي لحظة غريبة في التاريخ الإنساني، تتجاوز الأفراد تصبح
عملية جماعية معقدة، لها أسباب متداخلة. ولكن بمجرد ما بدأ إطلاق النار
وسقط الضحايا انفجرت الثورة المصرية.
في المجتمعات العربية لا توجد
وسيلة سلمية للتغيير، ومن هنا تقع مجتمعاتنا في موقف صعب، لأنها لم تصل
لمرحلة التغيير السلمي والتداول على السلطة. والجذور التاريخية لهذه
الثورات انها ككرة الثلج، متى ما بدأت في مكان انتقلت لمكان آخر، فرفعت
الوعي وكسرت حاجز الخوف محلياً وإقليمياً. وهكذا دخلت المنطقة العربية في
هذا الفضاء، لتطرح السؤال حتى على الأنظمة التي لم تحدث فيها ثورات: هل
تبقى أمامها وقت للإصلاح، أم تلتزم العناد، وما هو ثمن ذلك؟
الإصلاح
صعب ومعقد، وفي الوقت نفسه يستغرق وقتاً، وهذا هو التحدي الكبير أمام هذه
الأنظمة. والعرب في هذه المرحلة التاريخية يعيشون مرحلة استقلال ثان،
الاستقلال الأول كان من الاستعمار بمعناه التقليدي، وكان صراعاً بيننا وبين
الآخر، أما اليوم فهو استقلال من نوع ثان… استقلالٌ عن الأنظمة وأنماط
مختلفة في الديكتاتورية، والسعي إلى بناء واقع جديد.
ولكن المرحلة
الأصعب بعد انتصار الثورة، كما نشاهد اليوم، حيث تظهر كل المشاكل
المتراكمة، حيث تكون المرحلة الانتقالية حساسةً في التعامل مع الثورات.