بعض كتاب وشعراء ومتحدِّثي العرب يوقعون الناس في حيرة. إنهم أحياناً
يتصرفون كأطفال سذَّج تجاه قضايا المجتمع المعقَّدة والتي تخضع لمنطق
التاريخ البشري. لقد بدأنا مؤخَّراً نقرأ لهم كتابات وقصائد تعميمية محبطة
لآمال الناس في نجاح ثورات وحراكات الربيع العربي، مبشِّرين بأن الربيع قد
انتهى إلى خريف عربي، وبعده سينتهي إلى شتاء قارس عاصف مدمّر.
والسّبب؟
حدوث مشاكل وأحياناً تراجعات في مسيرات ثورات وانتفاضات الشعوب العربية.
إنه منطق السَّذاجة الذي يحلم بألا تزيد الثورات والانتفاضات عن نزهة قصيرة
الأمد وعن إسقاط لهذا الطاغية أو ذاك، لتتحقق بعدها أهداف تلك الثورات
والانتفاضات وتدخل المجتمعات في بحبوحة عيش وعلاقات سلام. كذا يراد لثقافة
الاستبداد والاستغلال في مؤسسات الطغيان ولثقافة الخضوع والطاعة والذلّ في
المجتمع، تلك الثقافة التي تكوَّنت وتجذَّرت عبر القرون، يُراد لها أن
تختفي خلال سنة أو سنتين دون صراعات مريرة ودون سقوط ضحايا ودون منطق
التاريخ في الصُعود والهبوط.
لكنَّ منطق الثورات ليس بهذه البساطة
والبراءة. إنه منطق متعرّج، يمرُّ بمراحل، ينجح ويخفق، يعتمد على ويتعايش
مع عامل الزَّمن، عامل النَّفَس الطويل، ذلك لأنه منطق اجتثاث كلي للماضي
وبناء كلي جذري للمستقبل. أما الحاضر فيجب أن ينظر إليه كجسر عبور وكفترة
تهيئة لما هو قادم. وهو الأصعب والأخطر والمغموس بالآلام والأحزان.
ولذلك
فمنذ بداية الثورات والحراكات عبر الوطن العربي، نبَّه الكثيرون إلى أن
تلك الثورات والحراكات طرحت شعارات بالغة الروعة والسموّ، لكنَّ عفويَّة
انطلاقها من غضب شبابي، الذي بدوره أجَّج غضباً شعبيّاً، لم يسمح لها بأن
تطرح أكثر من شعارات. أما المشروع الثوري المتكامل؛ فقد ترك للزَّمن
ولأحداثه لكي ينضج ذلك المشروع الذي بدونه ستبقى الثورات والحراكات في خطر
دائم وعرضة للتّيه الفكري والمنهجي والتنظيمي.
وعليه فليتوقف
الناقدون المتباكون عن نشر الرثائيات التي تحبط وكتابة النَّقد المتحذلق
الكلامي، وليضعوا خوفهم المبرَّر على الثورات في شكل مساهمات فكرية
وتعبيرية لبناء المشروع الثوري الذي ينبغي إكماله في المستقبل القريب.
لنذكّر هؤلاء بأنَّ هناك جوانب نقص في الثورات والحراكات العربية تحتاج إلى
معالجتها وتقديم فكر نيّر بشأنها.
هناك جانب مشاعر العروبة
والانتماء للأهداف القومية الكبرى، وفي مقدّمتها التضامن القومي ووحدة
الأمة العربية والوطن العربي الكبير، إذ هما باهتان ومهمَّشان في حياة ما
بعد الثورات والحراكات. ومن هنا تبدو قضية العرب الكبرى، قضية دحر المشروع
الصهيوني وتحرير فلسطين، وكأنها محاصرة في زاوية ضيِّقة، لا يعبر عنها
إلاَّ تبادل السفراء من حاملي رسائل الودّ والصداقة المعيبة.
ومن هنا
يبدو الوجود الاستعماري الأميركي الجاثم على أرض العرب، احتلالاً
وتدخُّلاً يوميّاً وزيارات لمسئولين لا تنقطع، وتنسيقاً من قبل أجهزته
الأمنية مع أجهزة الأمن العربي وتأجيجاً للمشاعر الطائفية والعرقية، يبدو
مكانه أمراً طبيعيّاً وقدَراً لا رادّ له، متروكاً لكل قطر عربي أن يتعامل
معه بالطريقة التي يراها، حتى ولو تمّ ذلك على حساب مصلحة الأمة العربية
العليا المشتركة. من هنا لم يجد قادة أنظمة ما بعد الثورات أية حاجة لأن
يدعوا إلى مؤتمر قمَّة عربَّية للتباحث في أمور الجحيم الذي تعيشه الأمّة.
هناك
أيضاً قضية الصّعود والانتشار للإسلام الجهادي العبثي المتطرّف، القائم في
أكثره على أسس طائفية كريهة، غير المفرق في كثير منه بين الأبرياء
والمذنبين. إنه الآن يمتزج بفكر سياسي إسلامي سلفي بالغ الانغلاق والجمود
والتخلف؛ ليكوّنا فيما بينهما صورة للإسلام خارج إطار الإسلام السياسي
السّلمي الديمقراطي المعتدل الرّاغب في التعايش مع الإيديولوجيات الأخرى،
الذي يحاول التعايش مع العصر العولمي ومتطلباته المعقّدة.
نحن هنا
أمام ملحمة متفجرة داخل الإسلام نفسه؛ تنتظر من يساهم في إطفاء حرائقها.
وأي حريق أكبر من وقوف أحد كبار العلماء السلفيين في دولةٍ عربيةٍ مؤثّرة
بالمال والمكانة السياسية ونقده الشّديد اللاّذع المبطّن للحركات السياسية
الإسلامية التي قبلت التعايش مع مفهوم الدولة الديمقراطية المدنية، أحد
شعارات الثورات والحراكات. إنه وأمثاله يدشّنون معركة مزدوجة ضدّ الإسلام
المعتدل وضدّ كل ما جاء به الربيع العربي.
نحن هنا أمام معركة
التجديد الحضاري التي يجب أن تكون فاصلةً، ويجب أن تستقطب جهود كتاب وشعراء
ومتحدّثي العرب، لا مرثياتهم وبكائياتهم.
إذن هناك حاجة ملحّة
للتوقُّف عن التعامل مع ثورات وحراكات الربيع العربي، نعم ربيعها وليس
خريفها أو شتائها، بأسلوب طفولي مستعجل. الحاجة الآن هي للذين يستطيعون
المساهمة في سدّ الثًغرات والنواقص والاندماج العاطفي والفكري في الوهج
الذي سيأتي به المستقبل. هل نطمع من المتباكين ألا يجسّدوا قول أحد فلاسفة
السياسة من أن أكثر الثوار جذريةً ينقلبون إلى محافظين رجعيين يوماً واحداً
فقط بعد انتهاء الثورة؟