لقد أطل علينا تقرير ديوان الرقابة المالية والإدارية العتيد في نسخته
التاسعة، وقد تزامن توزيع نسخ التقرير على الجهات المعنية مع احتفالية
«الحيه بيه» وهلال عيد الأضحى المبارك، والذي يستبشر به أهل البحرين
والمسلمون خيراً، ولكن هل سيستبشر أهل البحرين خيراً بتقرير الديوان العتيد
ويكون نافعاً للبلاد والعباد؟
في حوار جمعني مع أحد الإخوان بعد
صلاة العيد، قال لي متهكِّماً: أتعلم بأن تقرير ديوان الرقابة ليس أكثر من
احتفالية «الحية بيه»؟ فنظرت إليه نظرة استفهام، فأكمل قائلاً: الأطفال
وأهاليهم ينتظرون سنة كاملة لإحياء احتفالية «الحيه بيه» ثم يأتي يوم
الاحتفال وترمى بعد ذلك في البحر في احتفال بهيج تتخلله الأغاني والأهازيج
التراثية، ولا أحد يسأل عنها بعد ذلك حتى يحول الحول. وهكذا هو حال تقرير
ديوان الرقابة. فقلت له صدقت يا أخي، الله المستعان، ولنحتفل بالعيد بعيداً
عن وجع الدماغ!
نعم ومليون نعم صدق تصوير هذا المواطن الشريف، فهذا
بالفعل ما سيكون عليه حال تقرير الديوان التاسع العتيد، حال التقارير
الثمانية السابقة، التي كانت أشبه باحتفالية «حيه بيه»، إلا إذا حدثت
معجزة. فالمواطنون والمهتمون بالشأن العام والمتخصصون في مكافحة قضايا
الفساد بلغ منهم اليأس مبلغه، ولكنهم يستمرون ودون كلل في التساؤل: لقد تمت
حفلات العلاقات العامة بشأن تقرير الديوان العتيد، ولكن ماذا بعد؟ هل
سيتم تنفيذ توصياته ومحاسبة ومعاقبة المتجاوزين والمخالفين واسترداد المال
العام أم سيكون مكانه على الأرفف أو داخل المخازن؟ ونقترح بالمناسبة أن
يبنى متحف لتقارير الديوان العتيدة لأنها أصبحت شيئاً من التراث الشعبي!
لقد
بلغ ديوان الرقابة الربيع التاسع من عمره المديد، وقدّم من الأدلة
والحقائق التي تثبت وبما لا يدع مجالاً للشك، تورّط وزراء ومحافظين
ووكلاء… إلخ في تجاوزات إدارية ومالية ومخالفات قانونية ترقى إلى الجرائم
الصريحة التي يعاقب عليها القانون، وهذه الحقائق والأدلة – كما ذكرنا في
مقال سابق ونؤكدها اليوم – لم تصدر عن دولة معادية للبحرين أو منظمة
الشفافية العالمية أو المعارضة البحرينية وإنّما عن جهاز رسمي أنشئ بمرسوم
ملكي.
لقد أكد ملك البلاد بعد تسلمه التقرير التاسع على «أهمية
الحفاظ على المال العام ومراقبة سبل إنفاقه وترشيده وبما يسهم في تحسين
مستوى أداء الوزارات ومؤسساتها تحقيقاً للمصلحة العامة ولما فيه خير الوطن
والمواطن». ومن جانب آخر، أكد سمو رئيس الوزراء خلال استلامه التقرير على
أن «الحكومة تدعم كل أوجه الرقابة على المال العام من أجل المحافظة عليه من
أي تلاعب أو مخالفات أو هدر، لأن الحكومة مؤتمنة عليه، وأنه في سبيل ذلك
عملت على الأخذ بملاحظات وتوصيات ديوان الرقابة المالية والإدارية السابقة
وتنفيذها». وسيستمر ديوان الرقابة في جولته الماراثونية لتسليم نسخ من
التقرير لبقية المسئولين قبل أن تبدأ صحفنا في عملية زفّ التقرير إلى مثواه
الأخير من خلال التهليل والتكبير للصيد الدسم الثمين من المخالفات
القانونية والتجاوزات الإدارية والمالية، التي تم من خلالها إما الاستيلاء
على المال العام من غير وجه، أو هدر المال العام في أوجه غير نافعة للبلاد
والعباد، أو قبض عمولات مقابل تسهيلات أو إساءة استخدام السلطة في توظيف أو
ترقية من لا يستحق أو مضايقة و «تطفيش» الموظفين الشرفاء من أهل البلد لأن
جريمتهم الوحيدة وقوفهم ضد الفساد والفاسدين، وكل تلك السلوكيات تجرّمها
القوانين والأنظمة!
ونعود إلى تساؤلنا الشرعي والمحوري الذي تلوكه
ألسنة المواطنين الشرفاء الذين قلبهم على الوطن: هل سنرى هذه المرة تحركاً
من السلطة التنفيذية المعنية في المقام الأول بتنفيذ توصيات تقرير الديوان
من خلال تشكيل لجنة مستقلة لاستجواب ومحاسبة ومعاقبة الوزراء والمسئولين
المخالفين والمتجاوزين أم ستعتبر الحكومة المخالفات والتجاوزات التي ترقى
إلى مستوى الجرائم مجرد ملاحظات سيتم أخذها بعين الاعتبار! وهل سنرى نوابنا
الأشاوس عند وعدهم هذه المرة عندما توعدوا المخالفين بالويل والثبور وعذاب
الدنيا قبل الآخرة! أم سنرى تحركاً من النيابة العامة حامية حمى الحق
العام والمال العام أم ستكتب عليه: يتم حفظ التقرير لأنه «ألا وجه لإقامة
دعوى»!
إن التأكيد الرسمي السنة تلو الأخرى على أهمية الحفاظ على
المال العام ومراقبة أوجه إنفاقه… هو أمر محمود، ولكن ينبغي أن تقرن
الأقوال بالأفعال. ويحق هنا للمواطن أن يتساءل وبواقعية وموضوعية وبمنتهى
الصراحة: ما الذي تم تنفيذه من توصيات تقارير ديوان الرقابة الثمانية
العتيدة؟ هل رأينا مثلاً وزيراً أو وكيلاً أو محافظاً أو رئيس هيئة أو حتى
موظفاً تمت إحالته إلى النيابة العامة من قبل السلطة التنفيذية أو السلطة
التشريعية بسبب ارتكابه مخالفات إدارية أو مالية أو تجاوزات قانونية ترقى
إلى درجة الجرم الجنائي على خلفية تقرير الديوان؟
هل رأينا مثلاً
إقالة وزير أو أي مسئول أو حتى سكرتير وزير على خلفية تقرير الديوان؟ هل تم
تشكيل لجنة نوعية مستقلة سواء من السلطة التشريعية أو التنفيذية لمتابعة
تنفيذ توصيات تقارير الديوان الثمانية العتيدة؟ هذه التساؤلات وغيرها نترك
إجابتها لأولي الأمر في السلطتين المعنيتين بالأمر إن كانتا معنيتين حقاً!
إذن أين دولة القانون والمؤسسات التي نتكلم عنها ليل نهار؟
لقد أثبتت
تجارب السنوات الثماني الماضية من عمر تقارير الديوان العتيدة وبما لا يدع
مجالاً للشك، بأن السلطتين التشريعية والتنفيذية لا يعنيهما من تقارير
الديوان شيئاً، فقد تعاملتا مع التقرير كمسافر الترانزيت أو الزائر الثقيل
الظل الذي يزور لفترة قصيرة ثم يعجلون بطرده إلى المجهول وكأن لسان حال
السلطتين يردّد ما قال المثل الشعبي «ما عقب العود قعود»، أي لا أحد يجلس
بالمجلس بعد أن يدخن بالعود، والمثل الشعبي الآخر «يا بخت من زار وخفف»، أي
بعد حفلات تسليم التقرير رمي التقرير في البحر وإلى الأبد.
المواطن
يعيش أوضاعاً معيشية خانقة جراء الغلاء الفاحش وتدني مستوى الرواتب مقارنةً
بأسعار السلع، خصوصاً عند المقارنة برواتب مواطني الدول المجاورة. وفوق
هذا وذاك يرى بأم عينيه كيف يتم الاستيلاء الفاضح غير المشروع على المال
العام دون رقيب أو حسيب، وفوق هذا وذاك يقال له عليك بسياسة شد الأحزمة على
البطون والتجمّل بصبر سيدنا أيوب عليه السلام!
إن عدم إدخال إصلاحات
هيكلية جذرية من جهة، وترك المسئولين المخالفين للقوانين والمتجاوزين
إدارياً ومالياً من جهة أخرى، ليسا من الإصلاح في شيء، ولا يخدم الاستقرار
المجتمعي ولا استدامة العملية السياسية، بل يترك آثاراً مدمّرةً على الوضع
السياسي والاقتصاد الوطني ويزيد من معاناة المواطن البحريني ويرفع من درجة
الاحتقان والإحساس بالظلم. وهذا بالضبط ما حصل في تونس ومصر وليبيا واليمن
وسورية قريباً، والبقية من الدول العربية الأخرى تأتي!
إننا نقترح في
هذا الصدد وحتى نعيد الاعتبار لتقارير الديوان العتيدة، أن يتم إدخال
تعديل على قانون ديوان الرقابة، بحيث يمنح الحق للديوان في أن يحوّل
المخالفين والمتجاوزين إلى النيابة العامة مباشرةً بعد إصدار التقرير. كما
نقترح أن تؤول تبعية ديوان الرقابة إلى السلطة التشريعية صاحبة الحق الأصيل
في الرقابة على أداء السلطة التنفيذية. ولنتعظ مما جرى خلال العامين
الماضيين، فمن يتعظ ويرفع الشراع؟