أما وأن بعض الأحزاب والحركات السياسية الإسلامية العربية قد وصلت لأول
مرة إلى الحكم، وأن آخرين مرشحون للوصول أيضاً في المستقبل، فإنّ من الحكمة
أن يعرف قادتها أن الناخبين والمعارضين المنافسين سيطرحون الكثير من
الأسئلة والاستفسارات، وعلى هذه الأحزاب والحركات أن توضّح وتجيب.
فإذا
كان السّياسيون الإسلاميون يريدون أن يتحركوا في دروب الحكم والسلطة
الشائكة بسرعة وبشفافية وبفاعلية، فعليهم أن يتخلَصوا من بعض الأثقال التي
حمَّلهم إيّاها البعض، سواءً من بعض أعضائهم المتزمتين وأنصارهم أحياناً أو
من معاديهم أحياناً آخر.
من هذه الأسئلة الصعبة التي يجب أن تحسم
والأثقال التي يجب أن تزاح عن الكواهل، ما تتعلق بالموقف الواضح الصريح من
فكر وخطاب نظام الآداب السلطانية، ذاك المكوّن الخطير الملتبس من بين
مكونات التراث السياسي الإسلامي.
دعنا نذكّر أن الآداب السلطانية
كانت عبارةً عن إيديولوجية سياسية أريد بها إضفاء الشرعية على سلطات الحكم
وسلطانها الاستبدادي عبر التاريخ الإسلامي كلّه، وذلك بعد سقوط الخلافة
واستبدالها بالملك العضوض. ولقد قامت تلك الآداب السياسية على مبدئين
أساسيين هما أولاً إضفاء القداسة على الملك وبالتالي تسويغ استبداده،
وثانياً مطالبة المحكومين بالخضوع والطاعة من أجل درء الفتنة. وقد استعمل
مؤلفو وناشرو تلك الآداب السلطانية بصورة انتهازية نفعية القراءات الخاطئة
لنصوص القرآن الكريم والأحاديث النبويّة من جهة، ولبعض الفتاوى الفقهية
الممالئة للسلطان من جهة أخرى، وذلك من أجل تبرير ضرورة استبداد الحاكمين
وضرورة طاعة المحكومين.
ورغم أن الآداب السلطانية قد بدأت كتأثّرٍ
وتقليدٍ لفكر وممارسات الحكم السياسي الساساني التسلُّطي الفارسي القديم،
وهو القائم على أن مكانة الملك مقدّسة تتماثل مع مكانة الألوهية، وعلى أن
الطاعة والخضوع لذلك الملك هو مطلب ديني غير قابل للأخذ والعطاء، إلا أن
تلك الآداب المنقولة عن حقب ما قبل الإسلام ألصقت بدين الإسلام وأصبحت
جزءاً من الفكر السياسي الإسلامي.
ولو وقف الأمر عند هذا الحد لهان
الأمر وأصبح ذلك الموضوع جزءاً من التاريخ وتبريراته، لكنَّنا جميعاً نعرف
أن نظرات تلك الآداب وتحاليلها وتبريراتها ونصائحها لأصحاب السلطان لا تزال
معنا إلى يومنا هذا، أحياناً بشكل واضح وأحياناً بشكل متخفٍّ وراء أقنعة
حداثة سطحية أورثنا إياها الاستعمار واستعملتها الدولة العربية الحديثة
بخبث وانتهازية.
السؤال الذي سيطرحه الكثيرون على أنظمة الحكم
الإسلامي الجديدة هو: ما موقفها من ذلك الإرث الفكري والتنظيمي السياسي،
وهل هي على استعداد أن تتبرّأ من نواقصه الكثيرة، بل وأن تحدث قطيعة معه
وتستبدله بفكر وممارسات سياسية جديدة قائمة على مبادئ وقيم واضحة مثل
الحرية والعدالة والمساواة ودولة القانون والمواطنة والحكم الديمقراطي
الرشيد؟ بل هل هي على استعداد أن تغيّر لغة الخطاب السياسي وبعض كلماته
الغامضة التي لازال البعض يصرّ على استعمالها خدمة للاستبداد والقهر والظلم
في بلاد العرب؟ ألا نسمع بحرمة الخروج على وليّ الأمر ولو بطش، وبمكرمات
الرّاعي على الرعية؟
إن أنظمة الحكم الإسلامية الجديدة يجب أن تدرك
أن صعودها قد قلب الأزمنة السياسية رأساً على عقب، وعليه هناك حاجة أن
تنقلب أيضاً الكثير من الأفكار والممارسات السياسية رأساً على عقب.
والمأمول هو أن لا تشغلها أمور البوتاغاز وأزمات السَّير ولباس مذيعات
شاشات التلفزيون ومماحكات السّياحة عن إدراك ما أثبتته الأزمنة عبر
التاريخ، من أن السياسة لا تستقر إلا إذا قامت على أسس تفاعل حيٍ بين الفكر
العقلاني الحصيف والقيم الإنسانية السامية ومقتضيات التطوّر وتبدُّل
الأزمنة لينتج فكر سياسي عميق متكامل. وهذا مطلوب أن تساهم القوى الصاعدة
الجديدة في إحداثه مع غيرها من القوى ومن المفكرين في الحال. ذلك أن هناك
فراغاً هائلاً في حيز السياسة في بلاد العرب يتلاعب بملئه وبمصيره إرث
سياسي عربي إسلامي متخلف من مثل الآداب السلطانية والفقه السياسي المنغلق
على نفسه والمجترُّ لأقواله من جهة، وفكر سياسي مقلّد لفكر الغير بصور
عاجزة بليدة من جهة أخرى.
في حياة ومجتمعات ما بعد ثورات الربيع
العربي، يجب أن لا يوجد مكانٌ لفكر وأدب سياسي يرفع السلطان إلى منزلة
«سلطان الله في أرضه» ويعامل المواطنين كرعيًّة منقادة مطيعة على أساس أن
طاعة الإمام هي من طاعة الله، ويصدر الفتاوى لتبرير الهيمنة والظلم
والخضوع.
لقد ضحّى الألوف من شباب هذه الأمة بأرواحهم من أجل حياة
وفكر وممارسات سياسية إنسانية جديدة، وعلى أنظمة الحكم الإسلامية الجديدة
أن ترتفع إلى مستوى تضحياتهم وآمالهم وإرادتهم المبهرة.