يأخذ العنف في المجتمعات عدة صور، ولكنها جميعاً ضارة بالوطن
والمواطنين، من سلطات وشعوب، فقد يأتي في عنف لفظي سبابي، ليطال سواد
الأفراد، أو الرموز الدينية والسياسية والاجتماعية، ولذلك إن لم يُكْفأ في
أوله، عبر المحاسبة القانونية غير المفرقة بين المواطنين، فسيتمدد ليطال
حياة الناس الشخصية، ليصل إلى الطوائف والأديان في آخر المطاف.
ومن
صوره أيضاً العنف الاجتماعي الذي يبدأ بإيقاع الضيم على أفراد ولا يلبث أن
يصل إلى التمييز، ضد أو لصالح الطوائف سواء كانت أكثرية أو أقلية. وهناك
العنف القانوني والإجرائي، الذي يميز أناساً على غيرهم حين التقاضي، وفي
احتساب الأحقية للصالح العام من الخدمات، فتتعدد المكاييل بتعدد المناطق
والجماعات، فتجد رخاءً هنا وعسراً هناك. وأيضاً من العنف النكوص بالوعود
تحت طائلة التفرد بالقوة.
وهناك العنف الجسدي، الذي يطال الأفراد
والجماعات بالتعذيب والبطش واستخدام القوة المفرطة، ليربو إلى العنف المؤدي
للإعاقة الجسدية والقتل.
لكل فعل ردة فعل تقابله في الاتجاه، وقد
تكون بقوته نفسها أو تكاد، من حيث النوع أو التأثير، فيستمر صراع الأضداد،
إلى أن يفوق أحدهما بغلبة الآخر. وهذا قانون مادي، ولكنه ينطبق أيضاً على
المجتمعات، فحين يصفع طفلٌ آخر، فربما يبكي أو يجري، فيكون الفعل أقوى من
ردة الفعل، وربما يرد الصفعة بمثلها، ويستمر الصراع إلى حين يتغلب أحدهما
على الآخر.
أما في العلاقة بين السلطات والشعوب، فإن الأصل في الدولة
المدنية الحديثة، أن لا صراع بينهما، لكون السلطات وليدة الشعوب، توجِدها
وتحاسبها لتكون في حسن خدمتها، وإلا استبدلتها بسلطة أخرى من أفراد الشعب.
ولكن في المجتمعات، عبر تطورها التاريخي، كانت العلاقة وليدة الفطرة، ثم
تطورت ليتدخل فيها الإنسان بعلومه وتجاربه، وفقاً لتطور حاجات الحياة
الطبيعية والمادية، فبدأ بوضع الأعراف غير المكتوبة، وبعدها صاغ القوانين
والدساتير، وابتدع الأنظمة السياسية المختلفة، التي مؤداها الفصل بين
السلطات، ورسم العلاقة المتكاملة بينها، إلا أن بعض الأنظمة جاءت لتجعل
لطرفٍ تفوقاً على الآخر، عبر الاستحواذ على مصادر السلطة والثروة، فكانت
المجتمعات القبلية والإقطاعية والرأسمالية، التي امتلكت فيها السلطات مصادر
القوة والثروة، والتي ولّدت مقاومات كردات فعل، وصلت لمستوى الحروب وحركات
التمرد والثورات، حتى انتهت المجتمعات البشرية إلى نظام الدولة المدنية،
التي تعيد العلاقة بين السلطات والشعوب لأصلها، وهو مبدأ «الشعب مصدر
السلطات» جميعاً، من حيث الإدارة، ومبدأ الحرية والعدالة والمساواة من حيث
توزيع الثروات، وهو ما أسس لمبدأ المواطنة في التعامل من حيث الحقوق
والواجبات، ومبدأ الانتخاب الشعبي للسلطات، ومحاسبتها من خلال ممثليه
المنتخبين.
إلا أن الطبيعة الإنسانية، التي لم يأنس لها الخالق،
فأرسل للناس أنبياءه ورسله وأولياءه، ليُقيموها في علاقة أساسها العدل، هذه
الطبيعة، جعلت من يتَسَيّدَ يستفرد بالسلطة والثروة، فكان من أولويات
أساليب الدولة المدنية، مبدأ التداول السلمي للسلطات، عبر الانتخابات
الدورية، لكيلا تتمركز السلطة والثروة بيد أحد.
وللقواعدِ شذوذ،
فبدأت بعض السلطات في بعض المجتمعات، بتسخير أجهزتها لخدمتها واستمرارها في
السلطة، وإطالة مدى استحواذها على السلطة والثروة، إما استبداداً وإما
نرجسية. وهكذا ارتسمت الصراعات بين السلطات والشعوب، في أفعال وردات فعل
تطول وتقصر، وتقود لتطورات وانتكاسات.
ونأتي لبحريننا الغالية، فنفصل
ما بين الفترتين التاريخيتين، ما قبل وبعد الاستقلال، من حيث عدم الخلط
بين الحراك الشعبي الممزوجة مطالبه الحياتية بنزعة الاستقلال السياسي عن
المستعمر البريطاني، لنتناول الحراك المطلبي السياسي الوطني، ما ولدته حالة
الاستفراد بالسلطة والثروة من صراعات وأفعال وردود فعل عبر تاريخ البحرين
قديمه وحديثه. ويأخذ ذلك طابعاً سلمياً أحياناً، وترسم حدوداً دنيا من
العنف أحياناً أخرى، تقابله ردّات فعل عنيفة عبر التصدي بالاعتقال والسجون
والنفي واستخدام السلاح.
في أواخر الستينات من القرن الماضي، بعد
انسحاب المستعمر البريطاني وفشل ترتيبات الاتحاد مع قطر وإمارات الساحل
المتصالح (الإمارات حالياً)، وبعد مخاض سياسي استمر من العام 1968 لغاية
إعلان استقلال البحرين في 15 أغسطس/ آب 1971، جاء دستور 1973 الذي أنتجه
المجلس التأسيسي، وأفرز مجلس الشعب، واستتباعاً له كانت الروابط الطلابية
في الخارج التي توجت بالاتحاد الوطني لطلبة البحرين، تمثيلاً للقطاع
الطلابي، واللجان العمالية تمثيلاً للقطاع العمالي، والجبهات والتيارات
السياسية، وليدة ما قبل هذه الفترة وما بعدها، تمثيلاً سياسياً لقطاع واسع
من الشعب، فكانت هذه الجهات وغيرها نواة لمؤسسات المجتمع المدني الحديثة،
فكيف تم التعامل مع هذه المؤسسات الشعبية؟
لقد تم الإجهاز عليها بعد
حل المجلس الوطني وإيقاف مواد الدستور المنظمة لمدد إعادة الانتخابات،
وجعلها إلى أجل غير مسمى، وسن قانون أمن الدولة سيئ الصيت في العام 1975،
الذي تم بموجبه اعتقال بعض أعضاء المجلس، وتعرض النشطاء السياسيين والعمال
والطلبة، لهجمة أمنية شرسة، حيث يتيح القانون اعتقال أي فرد وإبقاءه في
المعتقل ثلاث سنوات من دون محاكمة قابلة للتجديد. وكان الخلاف مع ممثلي
الشعب حينها، بسبب طرح إنهاء اتفاقية القاعدة الأميركية في الجفير. ولم
يشفع للشعب تصويته إجماعاً العام 1970 على عروبة البحرين، عن ممارسة العنف
ضده بأقسى صوره، وكانت ردات الفعل الشعبية حينها ضعيفة. وتم استغلال حادثة
اغتيال الشيخ عبدالله المدني في جدحفص، وأحراش سار، في 19 نوفمبر/ تشرين
الثاني 1976، جراء مسبباتٍ، لم يُفصَح عنها حتى اليوم، للانقضاض على اليسار
الشعبي، من جبهتي التحرير والشعبية في البحرين، والقوميين المتمثلين ببعض
أعضاء مجلس الشعب، باتهامهم بحادثة الاغتيال، التي انتهت بإعدام 3 أشخاص من
خارج اليسار، فيما قضى آخرون نحبهم تحت التعذيب. وهو نزاعٌ دام أكثر من 25
عاماً، من السبعينات حتى التسعينات، في أحداثٍ خلفت ثكالى وأيتاماً
ومحزونين، أورثوا غبنهم للأجيال من بعدهم.
ثم جاء الميثاق العام 2001
بآمالٍ عريضةٍ، وتبعه قانون عفا الله عما سلف الذي منح الفرصة ليفلت
المتجاوزون من العقاب، وكذلك التراجع عن بعض التعهدات في دستور 2002،
وأهمها اختصاص مجلس الشورى بجعله أساساً وبقوة تفوق النصف في التشريع من
بعد التعهد بأنه للشورى فقط، وتبع ذلك توزيع الدوائر الانتخابية بمحاصصة
طائفية، لجعل الغلبة لطائفة على حساب طائفة أخرى. ثم جاء كَشف مستشارٍ
لتقريره المشهور بكل تفاصيله، ما جعل المعارضة أمام تحدٍ ومسئولية كبرى
لحفظ الوطن. إلا أن بعض نشطاء طائفة وخصوصاً الدينيين، أعمتهم نتائج
المحاصصة الطائفية، التي جاءت لغلبتهم المصلحية الضيقة على حساب الوطن،
فوقفوا ضد المعارضة السياسية والحقوقية، التي غالبيتها من طائفة أخرى،
وتحالف معها نشطاء وجمعيات ليبرالية وعلمانية وقومية، لتلتقي الأهداف التي
تبدو من ظاهرٍ غلبة تعداد المشاركين فيها أنها طائفية، مع أنه لا غبار على
حماية مصلحة أفراد الطائفة ضد التمييز والتهميش والتشويه والتخوين،
والحرمان من حقوق المواطنة، في خضم حماية المصلحة الوطنية العليا والعامة
الحافظة لحقوق جميع المواطنين ومستقبل الوطن في التعايش السلمي، وحفظ
مستقبل الأجيال.
لقد التقت مصلحة الطائفة مع مصلحة الوطن، وهذه
معادلة صعبة ومعقدة، صعب حلها على الطائفة المقابلة، فاختارت طريقاً أسهل
وهو موالاة السلطات على حساب المصلحة الوطنية العليا، بثمن تَميزُها
إيجابياً على الطائفة الأخرى، فنهجت العداء للمعارضة وتجلى ذلك في أحداث
السنة والنصف الأخيرة بدءاً من 14 فبراير/ شباط 2011 كما سنرى.