في نفس كل عربي من جيلي ومن الجيل الأسبق شيء ما من الناصرية . على الصعيد الشخصي رويت في كتابي »ترميم الذاكرة« شيئاً عن الفكرة التي مثلها جمال عبدالناصر في ذهني ووجداني وأنا تلميذ في المدرسة، وحكيت عن الفاجعة التي مثلها رحيله المبكر بالنسبة إليّ، وهي ليست أكثر من حصة كل فردٍ منا من الفجيعة الجماعية التي عمت العالم العربي يومها .
ويوثق أحد الأفلام الروائية البحرينية التي أُنتجت في السنوات القليلة الماضية، تلك اللحظة المؤثرة من تاريخنا، حين خرج البحرينيون إلى الشوارع في جنازات رمزية وداعاً لعبد الناصر الذي ما من زعيمٍ مثله أشعر الأمة باليتم بعد رحيله، ومن سوء حظي أنني ذهبت إلى القاهرة التي عشقتها ولاأزال، للدراسة الجامعية في منتصف السبعينات، وكانت القوى الناقمة على عبدالناصر منشغلة بتصفية إرث الرجل، وهو على كل حال إرث عصيّ على المصادرة، من وجهة النظر الوجدانية والتاريخية على أقل تقدير .
حضرتْ هذه التداعيات في ذهني وأنا أطالع ما جاء في أوراق المفكر العبقري الراحل جمال حمدان التي أعدها شقيقه في كتاب . تتحدث الأوراق، كما يفهم من العرض الذي نقلته الصحافة، عن قضايا مفصلية تتعلق براهن مصر ومستقبلها، وبالدور المنوط بها، ويبدو أن بصيرة جمال حمدان التي تنطلق من قراءته المتأنية لواقع الحال، جعلته أميل إلى التشاؤم إزاء المستقبل، ولكننا سننظر إلى هذا التشاؤم من قبيل أنه الباعث على شحذ الهمم لتفادي السيناريوهات السيئة .
لكن من بين أهم الإضاءات التي تضمنتها الأوراق، هي تلك الإشارة النابهة إلى مكانة ودور جمال عبدالناصر والناصرية في تاريخ مصر المعاصر، فحسب جمال حمدان، فإن جمال عبد الناصر هو أول، وللأسف آخر، حاكم يعرف جغرافيا مصر السياسية . أكثر من ذلك يرى حمدان أن الناصرية هي المصرية كما ينبغي أن تكون، وفي كلمات قاطعات يقول: »أنت مصري، إذاً أنت ناصري«، حتى لو انفصلنا عن جمال عبد الناصر أو رفضناه كشخص أو كإنجاز . ويضيف: »كل حاكم بعد عبد الناصر لا يملك أن يخرج على الناصرية، لأنه لو فعل ذلك سيخرج عن مصريته، فالناصرية هي بوصلة مصر الطبيعية، لأن المصري »ناصري قبل الناصرية وبعدها ومن دونها« .
مرت ذكرى رحيل جمال عبدالناصر هذا العام، ومصر تكاد للتو تفرغ من نتائج انتخاباتها الرئاسية التي حملت إلى الرئاسة رجلاً من التيار الأشد خصومة للناصرية، تيار الإخوان المسلمين، لكن أحد المتنافسين الرئيسين في تلك الانتخابات آتٍ من التجربة الحزبية للتيار الناصري، نعني به حمدين صباحي الذي وإن لم يفز، وحتى لم يتمكن من التأهل إلى الدور الثاني من الانتخابات، لكنه حصد من الأصوات ما أظهر أن قاعدة شعبية عريضة في مصر مازالت ترى في نهج وفكر عبدالناصر، طريق مصر نحو الخلاص . ولعل في هذا مصداقاً لما تحدث عنه جمال حمدان، بمعنى أن من صوتوا لحمدين لم يكونوا ناصريين بالمفهوم الحزبي والفكري، وإنما كانوا مصريين بالحدس العفوي الذي ربط عزة مصر ومجدها بالمرحلة الناصرية تحديداً . والفكرة هنا في مغزى التجربة وروحها، وهما الباقيان اللذان يجدر استلهامهما، أما الحيثيات والتفاصيل فإنها تظل ماضياً لن يعود .