المنشور

جذور الأزمة وآفاق الحل

في آخر مقال على هذه الصفحة قلنا إن مسئولية إخراج البلد من الأزمة التي
تعصف بها منذ ما يزيد على العام ونصف العام، تتحملها كل الأطراف المعنية،
وإن كانت الدولة تتحمل القسط الأكبر من هذه المسئولية، لأنها هي من أوصل
هذه الأزمة إلى ما هي عليه اليوم من تأزم وتعقيد، وهي من كرّس تلك الملفات
والقضايا المشبعة بعوامل الخطورة وعناصر الانفجار، عندما اختارت اللجوء إلى
الخيار الأمني للتعاطي مع هذه الأزمة، بحيث لم يعد ينفع أو تجدي معها أي
حلول جزئية أو وقتية، أو ذات أبعاد طائفية لأن من شأن هذه الحلول زيادة
الوضع تشوهاً وتعقيداً.

إن إحدى أهم القضايا أو العلل التي تشكل
عنواناً بارزاً للأزمة وتحتاج إلى حل جذري وعاجل هي قضية «إعادة التوازن»
السياسي والاجتماعي الذي يعاني من خلل مزمن وفاضح، ما يعني أن هذا الأمر
يتطلب إجراءات جادة وحاسمة، لا تحتمل أية مماطلة أو تسويف، من أجل ضبط
وتصحيح مسار المعادلة السياسية والاجتماعية في البلد لتأخذ طريق العدل
والإنصاف والمشاركة للجميع.

في تقديرنا من هنا يجب أن تكون البداية،
وهنا يجب أن تكون قاعدة انطلاق أية مبادرة جديدة للحوار السياسي الوطني إذا
ما أرادت الدولة حقّاً فتح آفاق واقعية أمام الحلول السياسية العادلة
وإعطاءها فرصة للنجاح، وتهيئة أجواء المصالحة الوطنية، لأنه وباختصار شديد
لا يمكن الحديث عن أي حوار يخرج البلد من حالة الانسداد والاستعصاء السياسي
الراهن مع استمرار سياسات التمييز والإقصاء، وبقاء عقلية «كسر عظم» الخصم
التي تعشش في رؤوس البعض، وهي عقلية نابعة بالأساس من وهم امكانية إفناء أو
عزل هذا الخصم السياسي من الخريطة السياسية والاجتماعية. (قبل أيام دعا
أحد كتّاب الأعمدة الموتورين إلى القيام بحملة تطهير جديدة في الوزارات
والدوائر الحكومية وشبه الحكومية، حتى يعتدل الميزان على حد قوله)! على رغم
أن الأزمة وكل تداعياتها السلبية المريرة، قد أكدت بما لا يقبل الشك، أن
البلاد بمكوناتها الاجتماعية والسياسية والمذهبية لا تقبل أو تسمح بوجود
مثل هذه العقلية في المعادلة الوطنية مهما بلغ عويل الانتهازيين والمغرضين.

هناك
بعض الأسئلة المهمة التي تفرض نفسها في هذا السياق؛ ترى أين تكمن جذور هذا
الخلل السياسي والاجتماعي؟، وهل هو نتاج الأزمة الأخيرة حصراً؟ أم هو أحد
أهم أسباب تفجرها؟ إن الإجابة الموضوعية تقتضي منا الذهاب بعيداً إلى
الماضي حيث جذور هذه القضية التي تمتد إلى بدايات تشكل الدولة البحرينية،
التي لم تكن يوماً إطاراً جامعاً أو حاضناً للجميع، والتي كانت تفتقر إلى
ثقافة الديمقراطية والتسامح وقبول الآخر، وذلك بسبب غياب المؤسسات الوطنية
الجامعة، وانعدام الهياكل السياسية والدستورية والتشريعية التي تعكس طبيعة
تعددية المجتمع البحريني، وبالتالي غياب الإرادة الشعبية كمصدر للسلطة
والسيادة في هذه الدولة، وغياب قيم العدالة والمساواة، وهذا ما يفسِّر
الاضطراب الدائم أو الاحتقان السياسي المستمر في شكل العلاقة بين الدولة
والمجتمع، والذي يعبر عن نفسه في صورة أزمات متكررة ودورية تشهدها الساحة
البحرينية من حين إلى آخر.

لذلك؛ بمجرد أن وقعت الأزمة الأخيرة،
وواجهت الدولة احتجاجات المجتمع المتطلع إلى الإصلاح وإلى الحرية والعدالة،
وبناء واقع سياسي واجتماعي خالٍ من المعاناة والظلم، حتى رأينا كيف صارت
مناسبة لإخراج ما في جوف هذا المجتمع من انقسامات وخلافات إلى سطح المجال
السياسي. وهو ما يؤكد أن الديمقراطية كثقافة، والحوار كمنهج، لم يترسخا في
عقل الدولة ولا في وعي المجتمع.

هذه الحقيقة تقودنا إلى حقيقة أخرى
صادمة، وهي أن كل ما فعلته الدولة خلال العقود الأربعة الماضية، أنها أقفلت
(وباستحكام) أبواب التعددية، وحالت دون ثقافة الديمقراطية في المجتمع، وفي
الوقت نفسه شرعت الأبواب أمام ثقافة الخوف والخنوع والنفاق السياسي
والاجتماعي، وهي الثقافة التي تعد «مفرخة» للانتهازيين والفاسدين ومقبرةً
لأي تطور سياسي أو ديمقراطي.

وبالتالي هي المسئولة عن سد شريان تقدم
البلد ونهوضه، وعن تآكل الرصيد الحضاري الذي عرفت به البحرين تأريخيّاً.
وطبعاً الحصيلة المنطقية لكل هذا المسار؛ هي فشل التجربة السياسية طوال كل
هذه العقود في بناء دولة المواطنة والقانون والمساواة بين المواطنين.

ولعل
أخطر تجليات وعلامات هذا الفشل؛ هو أن الدولة تركت، عمداً أو سهواً، الحبل
على الغارب لبعض القوى والعناصر التي استحوذت عليها شهوة التسلط وتتمتع
بمخزون طائفي وإقصائي غير محدود، تركتها لتتغلغل في مفاصل الدولة وهياكلها
السياسية والإدارية والسيطرة عليها وخصوصاً المجالات الحيوية مثل التعليم
والإعلام والثقافة وغيرها من المجالات التي أصبحت منخورةً بسموم الطائفية،
ما أضعف مناعتها بمرور الزمن.

وبوقوع الأزمة الأخيرة؛ وجدت تلك القوى
والعناصر أن الفرصة أصبحت مواتيةً للانقضاض على الدولة وابتلاعها كغنيمة
حرب، وكانت أسلحتها في هذه «الغزوة» غير المباركة لجان التحقيق، التي تشبه
محاكم التفتيش، وإعلاماً تحريضيّاً وخطاباً مشحوناً بالكراهية والحقد
الطائفي يغذّي الاصطفافات الخطيرة والمدمرة، أما الضحايا فهم المواطنون
الأبرياء الذين قطعت أرزاقهم لذنبٍ لم يقترفوه.

إنها قوى الشد العكسي
التي لم يكن يهمها يوماً مستقبل البلد، وهي التي تقف اليوم سداً منيعاً في
وجه الحلول أو المبادرات الوطنية التي ترمي إلى إنقاذ البلاد من خلال
تصحيح الوضع وإعادة الأمور إلى نصابها الصحيح والواقعي. وهي المسئولة عن
فشل الدولة أو عدم قدرتها على لملمة جراح البلد ووقف النزيف الذي يعاني منه
على كل المستويات.

من هنا نرى أن خطوات الحل السياسي يجب أن تبدأ أو
تنطلق من قناعات الدولة (السلطة السياسية) بأن معادلة القوة والانتقام لم
تعد هي المعادلة الطبيعية والسليمة، وخصوصاً في ظل ما تشهده المنطقة من
تطورات، والتي تؤكد يوماً بعد آخر، أن المواجهات والمعالجات الأمنية قد
استنفدت أغراضها وتجاوزت زمن صلاحياتها، كما أن الدولة أصبحت أمام مسئولية
كبيرة بعد أن تعهدت للمجتمع الدولي بتنفيذ توصيات جنيف في مجال حقوق
الإنسان.

من رحم هذه القناعة؛ يجب أن يولد واقع سياسي جديد يتم من
خلاله إعادة صياغة شكل العلاقة السياسية، عبر عقد اجتماعي سياسي متوازن
يصلح مسار سفينة الوطن، ويوصلها إلى شاطئ الأمان والطمأنينة للجميع. ولن
يكون ذلك ممكناً دون صهر طاقات وكفاءات الشعب البحريني بكل مكوناته
السياسية والاجتماعية وليس عبر تدميرها ومحاصرتها، والانطلاق بعد ذلك إلى
آفاق الإصلاح السياسي والديمقراطي الحقيقي دون أية منغصات أو عقبات أمنية.

فالأزمة
هي في المقام الأول أزمة سياسية ودستورية وحقوقية، ولن تجدي معها كل
الحلول الأمنية، مهما اشتدت قسوتها أو طال زمنها وعظمت تضحياتها.

والبداية
كما أوضحنا، يجب أن تنطلق من تصحيح المعادلة السياسية الاجتماعية غير
المتوازنة في البلد، وفيما يخص القوى والأطراف السياسية الأخرى على مختلف
توجهاتها ومواقعها (موالاة أو معارضة) لابد أن تتولد لديها أيضاً قناعة بأن
أي حل سياسي وطني للأزمة ينبغي أن يحصل بالتوافق بين كل هذه الأطراف، وأن
أيّاً منها لا يستطيع أن ينتج أو يفرض حلاًّ سياسيّاً بمفرده.

ونقولها
بصدق وحرص لكل من يفكر بعقلية قلب الطاولة رأساً على عقب، بأن عليه أن
يغادر هذه العقلية وعدم التعويل على مثل هذا التفكير لأنه غير واقعي وأسير
للرغبات والأمنيات ولا شأن له بالواقع والوقائع على الأرض، وبالتالي ليس له
حظ من النجاح.

فالأمر يحتاج إذاً إلى نقطة تقاطع وسطية، مدخلها
الاتفاق على مبدأ الإصلاحات اللازمة والضرورية، وبما يحقق مطالب الناس
العادلة والمشروعة ويعيد لهم حقوقهم ويلبي طموحاتهم في شراكة سياسية
حقيقية، لكي لا تستمر هذه الأزمة مفتوحةً على الزمن وتجعل البحرين ساحةً
مكشوفةً لكل أشكال التدخلات الخارجية المرفوضة من قبل كل الحريصين
والخائفين على مستقبل البلد وعلى وحدته وسيادته الوطنية.

محمود القصاب
صحيفة الوسط البحرينية