سيطالعنا ديوان الرقابة المالية الإدارية خلال الأيام المقبلة بتقريره
السنوي العتيد وللسنة التاسعة على التوالي. هذا التقرير الذي يدقق ويرصد
ويوثق الأداء الإداري والمالي للوزارات والهيئات واللجان الحكومية والشركات
التابعة لها حول مدى تطبيق الحكومة وأجهزتها والشركات التابعة لها
ومسئوليها أو مدى مخالفتها أو تجاوزها – أي الحكومة – للقوانين والأنظمة
واللوائح المعمول بها.
وسيتضمن التقرير كالعادة، مجموعة من المخالفات
والتجاوزات التي ارتكبها العديد من المسئولين في الدولة، والتي تؤشر على
التجاوزات غير القانونية على المال العام، وستعلن الحكومة وكالعادة رغبتها
الصادقة في التعاون وتنفيذ ما تضمنه التقرير، وحرصها على متابعة توصيات
تقرير الديوان العتيد من دون ذكر – وكالعادة – لآليات المتابعة، وما إذا
كانت المتابعة ستشمل مساءلة ومحاسبة المخالفين والمتجاوزين ومن استولى على
المال العام بغير حق!
وسيطلق نواب الشعب وكالعادة زوابع التصريحات
والخطب النارية وبالونات التهديد والوعيد بمحاسبة المخالفين والمتجاوزين
الفاسدين. تلك الخطب والتصريحات التي هي عبارة زوابع في فنجان، تنتهي
دائماً وأبداً وكالعادة في أحضان الحكومة. لقد قال لي ذات مرة أحد النواب
الذين يسمون أنفسهم بالمستقلين (ولا أعلم هم مستقلون عن ماذا!) عندما صدر
التقرير الثامن للديوان: ماذا أنتم فاعلون بالكم الهائل من المخالفات التي
ارتكبها المسئولون؟ فقال: لا نستطيع أكثر من أن نطلق التصريحات… يا أخي
من يقدر على الحكومة؟!
وستتبارى وتتباهى الصحف المحلية – وكالعادة –
في نشر تلك المخالفات والتجاوزات والغسيل الدسم، وبحسب مصالحها وقربها من
هذا المسئول أو ذاك! طبعاً، في ظل الحرية والشفافية التي يوفرها العهد
الإصلاحي وقانون الصحافة وتستغل بعض الصحف الفرصة للنيل من هذا المسئول أو
ذاك الذي لم يلبِ مصالحها! ولكن معظم هذه الصحف لا تذهب بعيداً، وكأنما
لسان حال صحفنا يقول إن في هذا البلد فساداً وهذا أمر طبيعي فهي ظاهرة
عالمية، ولكن لا يوجد فاسدون لأن الفاسدين موجودون على كوكب آخر!
وستلتقط
وكالعادة الصور وتقام حفلات العلاقات العامة حول عملية تسليم وتسلم
التقرير العتيد والإنجاز الخارق الذي حقّقه ديوان الرقابة، وسيقال إن
البحرين تسير في طريق الإصلاح ومكافحة الفساد، ولكن ماذا بعد حفلات
العلاقات العامة هذه؟ وما هو مصير المخالفات والتجاوزات للقوانين والأنظمة
التي ارتكبها مسئولون على رأس عملهم؟ أسئلة تحتاج إلى أن يجيب عليها أصحاب
الشأن.
أما المواطن المغلوب على أمره، سيفرح – وكالعادة – لمعرفة هذه
المخالفات التي ارتكبها المسئولون في الدولة، لأنها كشفت جزءاً يسيراً من
المستور، ولكن في الوقت نفسه سيتحسّر المواطن وكالعادة على ضياع الأموال
العامة أو الاستيلاء عليها من غير وجه حق. ولسان حاله يقول: لقد عرفنا
التجاوزات والمخالفات والفساد الإداري والمالي الذي أظهره التقرير العتيد،
ولكن هل لنا ولو لمرة واحده في حياتنا أن نرى مسئولاً واحداً تم تحويله إلى
النيابة العامة من قبل السلطة التنفيذية أو السلطة التشريعية؟ هل يا ترى
سنرى تفعيلاً للأدوات القانونية ضد من تجاوز وخالف واستولى على المال العام
من غير وجه حق؟ وبسبب اليأس الذي يعيشه المواطن حيث تواضع المنجزات
المعيشية على مدى عقد من الزمان وبسبب غياب المساءلة والمحاسبة للفاسدين،
سيتجه – وكالعادة – إلى ربه قائلاً: الشكوى لغير الله في هذا البلد مذلة!
إن
حجم التجاوزات التي أظهرتها تقارير ديوان الرقابة الثمانية من الكم والنوع
بمكان، إلى درجة أنك تشعر فيها بالغثيان والألم والحسرة. الغثيان من حجم
الملايين التي تم التلاعب بها أو إهدارها من قبل مسئولين، والألم والحسرة
جراء عدم مساءلة ومحاسبة من تسبب في ضياع أو إهدار المال العام أو استولى
عليه من غير وجه حق.
إن المواطن البحريني الذي ينتظر عقوداً من الزمن
للحصول على صدقة من الإسكان أو منحة معيشية من هنا وهناك، هذا المواطن
الذي ضربه اليأس في مقتل من إمكانية تحرك السلطة التنفيذية أو التشريعية أو
النائب العام لملاحقة ومساءلة ومحاسبة من تسبب في إهدار وضياع المال
العام… يتساءل وبحرقة: إذا خذلتنا السلطة التنفيذية وهذا شيء طبيعي لأنه
لا يمكن للحكومة أن تقر بأخطائها ومخالفات مسئوليها للقوانين والأنظمة، أي
لا يمكن أن «تطز عينها بصبعها» ولكن أين نواب الشعب؟ وأين الجهات القانونية
من التجاوزات والمخالفات الجسيمة التي يرتكبها المسئولون والتي ترقى إلى
جرائم والتي يقدمها لهم ديوان الرقابة على طبق من ذهب حتى يتحرك نواب الشعب
لاتخاذ ما يلزم لمساءلة ومحاسبة المخالفين والمتجاوزين؟ لماذا ينتظر نواب
الشعب الضوء الأخضر من جهة ما ليتحركوا؟ هل هم «ريبورتات» أم ماذا؟
أيها
النواب يا من انتخبهم الشعب إن كنتم حقاً تمثلون الشعب البحريني، استخدموا
أدواتكم في المحاسبة والتي تضمنتها لائحتكم الداخلية. اطلعوا على المادتين
(5) و (6) من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد التي وقعت عليها مملكة
البحرين العام 2010.
وأخيراً… نناشد ملك البلاد وبصفته رأس
الدولة، وفي ضوء الصلاحيات الممنوحة لجلالته التي تضمنها دستور 2002 المادة
(33) من الفصل الأول، أن يوجّه جهات الاختصاص وأعني هنا النائب العام في
متابعة وتنفيذ نتائج تقارير ديوان الرقابة المالية والإدارية على مدى
السنوات الثماني الماضية والتقرير القادم من أجل مساءلة ومحاسبة ومعاقبة
المخالفين والمتجاوزين الذين خانوا القسم، وأساءوا استخدام الثقة
والصلاحيات الممنوحة، وأضاعوا أو استولوا على المال العام بغير وجه حق،
وحققوا ثراءً فاحشاً على حساب الشعب البحريني مهما كانت مناصبهم أو نسبهم
أو حسبهم.
إن الإصلاح السياسي والاقتصادي لا يستقيم حاله في ظل إفلات
المتجاوزين والمخالفين من المحاسبة والعقاب. إنه من بديهيات أية عملية
إصلاح حقيقية تطبيق مبدأ الشفافية والرقابة والمساءلة والمحاسبة والعقاب…
وإلا فإن الإصلاح يصبح مجرّداً من أي معانٍ أو قيم، ويصبح عملية شكلية
ديكورية بامتياز… فمن يرفع الشراع؟