لو تم تطبيق ما يريد الكتَّاب المتمصلحون غرسه في المجتمع عن طريق
التكرار الممل عن مفهوم الوطنية والخيانة على التجربة الإنسانية في نضالها
من أجل مجتمعات أكثر عدالة وتحرراً وديمقراطية، لكان جميع المفكرين
المصلحين، والثوار والمناضلين، والنشطاء الحقوقيين والسياسيين، قد تم وضعهم
في خانة الخيانة لأوطانهم، ولأصبح جميع المتسلطين والظُلاَّم وسرَّاق
المال العام ووعاظ السلاطين ومن يمارسون القتل والتعذيب، شرفاء يحمون
أوطانهم من المجرمين الذين يريدون شراً بالبلاد والعباد.
لو تم تخوين
كل من يعارض حكومة بلاده، ويطالب بالمزيد من الحرية والعدالة، لأصبح
نيلسون مانديلا الذي قضى معظم حياته في السجن لنضاله في سبيل إنهاء حالة
الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، ومارتن لوثر كينج، الذي اغتيل بسبب مقارعته
التمييز ضد السود في الولايات المتحدة الأميركية، وغاندي، وتشي جيفارا،
ومحمد صادق الصدر، ومحمد البوعزيزي الذي أشعل الربيع العربي، وجميع الذين
دفعوا من دمائهم وحريتهم ثمناً لمجتمع أكثر عدالة من أكبر الخونة في
التاريخ، ولأصبح فرعون، ونيرون، والحجاج بن يوسف الثقفي، وهتلر، والقذافي،
وابن علي، وحسني مبارك، وغيرهم ممن أذاق شعبه صنوف الظلم والتنكيل من أعظم
الوطنيين المخلدين في التاريخ.
لو طبَّق ما يريده هؤلاء الكتَّاب على
تاريخنا البحريني من تفسير لمفهوم الوطنية والخيانة، لكان بلغريف، أكثر
وطنية من عبدالرحمن الباكر، وعبدالعزيز الشملان، وعبدعلي العليوات، وجميع
أعضاء هيئة الاتحاد الوطني، وخصوصاً أن هؤلاء قد تمت محاكمتهم وإدانتهم،
ونفوا للخارج بسبب مواقفهم، ولكان أيان هندرسون أشرف وأكثر حباً للبحرين من
سعيد العويناتي، ومحمد غلوم، والشيخ عبدالأمير الجمري، وعبدالرحمن
النعيمي، وأحمد الشملان، والآلاف من أبناء البحرين الذين قتلوا وسجنوا
وشردوا في المهجر على يديه.
لقد كان اتهام الوفد الأهلي المشارك في
جلسات مجلس حقوق الإنسان في جنيف بالخيانة من قبل البعض بسبب كشف الممارسات
الغير إنسانية التي مورست، سواء في أيام السلامة الوطنية أو ما بعدها،
متناسين أن اللجنة المستقلة لتقصي الحقائق برئاسة البروفيسور محمود بسيوني
كشفت الكثير من هذه الممارسات.
أذكر أنه بعد تقديم تقرير لجنة تقصي
الحقائق، أجريت مقابلة مع أحد كبار المسئولين في الدولة لإحدى وكالات
الأنباء الخليجية، وقد أسرَّ لي هذا المسئول بأنه بعد قراءة البروفيسور
بسيوني لكلمته أمام جلالة الملك، هاتفته زوجته إذ كان مسافراً للخارج، يقول
هذا المسئول: «إن زوجتي كانت تبكي بعد سماعها للكلمة، وتقول هل من المعقول
أن يحدث ما تحدَّث عنه بسيوني في البحرين، وهل من المعقول أن تصل حالة
الإنتهاكات إلى القتل والتعذيب في السجون؟».
للأسف إن ما تحدَّث عنه
تقرير لجنة تقصي الحقائق، كان واقعاً لا يمكن لأحد أن ينكره، وللأسف أيضاً،
إن ما تحدَّث عنه الوفد الأهلي في جنيف من استمرار الانتهاكات، حقيقة
مازال المواطنون البحرينيون يعانون منها، وأن كشفها للعالم، يدين من
يمارسها، لا من يطالب بإيقافها.