يقول المندوب الخاص للأمم المتحدة في قضايا التعذيب وعضو لجنة تقصي
الحقائق – الشهيرة بلجنة بسيوني – نايجل رودلي «إن الواقع المظلم هو أنه
رغم إجراءات المنظمات غير الحكومية والحكومية على مدى ربع قرن من الزمن،
لايزال التعذيب يعد مشكلة منتشرة وواسعة، ليس فقط ضد المعارضين السياسيين،
بل كذلك ضد المشتبه بارتكابهم جرائم محددة».
والتعذيب كظاهرة أو
مشكلة ليست جديدة، فقد عرفته كل الحضارات القديمة سواء ما كان منها قد
بُنِيَ على الأديان أو على أفكارٍ فلسفيةٍ أو غير ذلك، ولم يكن حظُ القرن
الواحد والعشرين، بالنسبة للتعذيب، رغم ما عرفه من تقدم، بأقل من حظ القرون
السابقة الأخرى، لا بل ربما قد عُرِفَ هذا القرن من الفظائع ما كان
بالجملة. ومن القتل الجماعي ما لم تعرفه القرون السابقةِ الأخرى. فأصبح
المرءُ أمام ظاهرة بدأت تتفشى، وهي ظاهرة العنف ضد المتهمين، وخصوصاً في
الجرائم السياسية، إذ غدا التنكيلُ بهم أمراً معتاداً في كثير من الدول،
حسبما يظهر من تقاريرِ منظمة العفو الدولية التي توضح أن الدول إنما تلجأ
للتعذيب، في محاولة منها للقضاء على معارضيها السياسيين. حتى أصبح التعذيب
عملاً روتينياً من أعمال جهات الأمن، بدءًا بالاعتقال الفجائي ليلاً
والتنكيل بالمعتقل وأهله، إلى الاغتصاب أو التهديد به، وتدبير الحوادث
المميتة بشكل غامض، واستخدام العقاقير الطبية من أجل التسلل إلى ذاكرة
المعتقل بما يعد انتهاكاً لحقه في الخصوصية بوصفه أحد الحقوق المتفرعة عن
حقه في المساواة مع غيره في الاحتفاظ بمكنونات نفسه.
ولقد ساعدت
التكنولوجيا ووسائل الاتصال الحديثة في جعل كثير من الناس في دائرة
الاشتباه فضلاً عن الاتهام؛ وبالتالي أمكن تعريضهم للعنف بصورٍ مختلفة.
ومرجِعُ الأصل التاريخي لإمعان المحقق في تعذيب المتهمين المعتقلين، هو
ممارسة هذا العمل من قبل المحقق على نحو التعبد للأباطرة الرومان، بوصفهم
ممثلين للآلهة، ولما كان يبذله هؤلاء الأباطرة من عطايا سخية للمحقق الذي
يتمكن من انتزاع اعتراف المعتقل، وخصوصاً إذا كانت تهمة من قبيل العيب في
الذات الملكية. وكانت أوروبا، بشكل عام، تجيز التعذيب وخصوصاً في الجرائم
الدينية بسبب سيطرة الكنيسة. ولم تكن بريطانيا تسمح بالتعذيب؛ لأنها كانت
تنتهج سياسة مستقلة عن الكنيسة، ومع ذلك فقد مُورَس التعذيبُ واقعاً في
بريطانيا في الجرائم ذات الطابع الديني وجريمة الخيانة العظمى.
ثم
هبت رياح التغيير على يد الفيلسوف فولتير في فرنسا، الذي أدان التعذيب.
وشايعه في ذلك الفيلسوف بيكاريا في إيطاليا الذي اعتبر التعذيب عقوبة توقع
على المتهم قبل الحكم عليه بما يعد تطويحاً بالنظام القضائي كله. ولقد أدى
تأثير كلام فولتير وبيكاريا إلى منع التعذيب في بروسيا سنة 1740م وفي فرنسا
سنة 1789م… وسرعان ما لحقت بلدان أوروبية أخرى بذلك بحيث منعت التعذيب.
ومع
بداية القرن التاسع عشر، يمكننا القول أو الادعاء بأن التعذيب الذي هو
طريقة غير إنسانية في التعامل مع البشر، قد انتهى، ورغم ذلك وحتى هذا اليوم
هناك الكثير من المناطق في العالم التي يحصل فيها شكل من أشكال التعذيب
رغم إدانة المجتمع الدولي للتعذيب واعتباره جرما يُرتكب في حق الكرامة
الإنسانية، لما يمثله من انتهاك أساسي لحقوق الإنسان، وأهمها حقه في الأمن
الفردي وهو حقه في سلامة جسمه. كما حرّم القانون الدولي التعذيب تحريماً
قاطعاً أياً كانت الظروف، ولقد بذلت جهود دولية جبارة لمكافحة التعذيب
تمثلت في المعاهدات الدولية ومنها اتفاقية جنيف لعام 1976 والخاصة بالحقوق
المدنية والسياسية التي حرمت التعذيب، وجميع صور المعاملة القاسية وحددت
الأمم المتحدة في مشروع اتفاقية دولية لمناهضة التعذيب المقصود به والشخص
القائم به، بشكل تفصيلي، وقد تم بالفعل اعتماد هذا المشروع كاتفاقية دولية
في ديسمبر/ كانون الأول 1984 انضمت إليها البحرين بموجب المرسوم رقم (4)
لسنة 1998 المعدل بالمرسوم رقم (34) لسنة 1999. وقد ورد تحريم التعذيب في
ميثاق منظمة الدول الأميركية لعام 59 والاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان
والميثاق الافريقي لحقوق الإنسان لعام (81).
كما نصت معظم دساتير
الدول، إن لم نقل كلها، على تحريم التعذيب، ومن هذه الدساتير الدستور
البحريني الذي نص في المادة (19/د) منه على التالي: (لا يعرض أي إنسان
للتعذيب المادي أو المعنوي، أو للإغراء، أو للمعاملة الحاطة بالكرامة،
ويحدد القانون عقاب من يفعل ذلك، كما يبطل كل قول أو اعتراف يثبت صدوره تحت
وطأة التعذيب أو الإغراء أو لتلك المعاملة أو التهديد بأي منها). ثم جاءت
المادة (21/د) مؤكدة حظر التعذيب فنصت على ما يلي: (يحظر إيذاء المتهم
جسمانيا أو معنويا). وهو ما أكده ميثاق العمل الوطني البحريني لعام 2001.
ويقصد
بالتعذيب كما عرّفته المادة الأولى من اتفاقية مناهضة التعذيب التي دخلت
حيز التنفيذ في 26/6/1987م بأنه (أي عمل ينتج عنه ألم أو عذاب شديد جسدياً
كان أو عقلياً يلحق عمداً بشخص ما، بقصد الحصول من هذا الشخص أو من شخص
ثالث على معلومات أو على اعتراف، أو معاقبته على عمل ارتكبه أو يشتبه في
أنه ارتكبه هو أو شخص ثالث، أو تخويفه أو إرغامه هو أو أي شخص ثالث، أو
عندما يلحق مثل هذا الألم أو العذاب لأي سبب من الأسباب يقوم على التمييز
أياً كان نوعه، أو يحرض أو يوافق عليه أو يسكت عنه موظف رسمي أو شخص آخر
يتصرف بصفته الرسمية ولا يتضمن في ذلك الألم أو العذاب الناشئ فقط عن
عقوبات قانونية، أو الملازم لهذه العقوبات أو الذي يكون نتيجة عرضية لها).
فالتعذيب يرتبط ارتباطا وثيقا بالمتهم والجريمة والتحقيق الذي غايته اكتشاف
فاعل الجريمة وجمع الأدلة على ارتكابه الجرم وتقديمه للمحاكمة. وللتحقيق
أصول لا تعدو كونها إجراءات قانونية تخول المحقق جمع الأدلة وتحديد هوية
الفاعل، وقد وضعت تلك الإجراءات القانونية لضمان سلامة التحقيق من جهة
ولضمان سلامة المتهم من جهة ثانية، إلا أن الأخطار تحيق بكليهما من جراء
حصول بعض الممارسات الشاذة في كثير من البلدان والتي ترمي إلى اختصار الطرق
القانونية والسليمة بأن ينصب التحقيق بكل قوته على شخص المتهم لاستخلاص
الإقرار منه، وكأن الإقرار هو الغاية من التحقيق، وكأنه كاف بحد ذاته
لتأييد الاتهام والإدانة للمتهم.
ولكن إذا أمعنا النظر في طبيعة
الإقرار وجدنا أنه لا يشكل سوى دليل من بين الأدلة الكثيرة التي يجب أن
يؤيد بها الادعاء. وقد وضع العلم الحديث الوسائل الفنية الكافية التي تمكن
من اقتفاء آثار المجرمين وجمع الأدلة بحقهم دون المساس بسلامتهم وتعذيبهم
لجبرهم على الإقرار، فكم من إقرار كاذب أضاع آثار المجرم الحقيقي وقاد
القضاء إلى أخطاء قانونية وإلى الحكم على الأبرياء، إذ ان الذين يرغبون في
أن يكونوا شهداء، نادراً ما يعترفون أو يكشفون عن أي شيء من مكنوناتهم
بالإكراه، وعلى العكس من ذلك، كان آخرون قد عُرف عنهم أنهم يعترفون بأي
جريمة ويقدمون أي معلومات عندما يخضعون للتعذيب، ولذلك فعلى القاضي الجنائي
ألا يقابل اعتراف المتهم بالترحاب والقبول، بل عليه أن يقابله بغاية من
الحيطة والحذر والاحتراس، فالاعتراف بالجرم يورد صاحبه موارد الهلكة، وليس
من طبائع البشر وغرائز الإنسان السوي أن يُقبل على موارد الهلاك طائعاً
مختاراً، كما أن المتهم نادراً ما يعترف بوازع من الندم أو تأنيب الضمير.
فالإقرار ليس كل شيء، وان الأهمية التي تعطى اليوم للإقرار من قبل البعض
ليست سوى من آثار ذلك الماضي القاتم حيث كان الإقرار يشكل الطريق المثلى
لإثبات الجرم.
إن الأصل في الإنسان البراءة حتى تثبت إدانته في
محاكمة عادلة تتوافر فيها جميع الضمانات القانونية في جميع مراحل التحقيق
والمحاكمة، ومع هذه القرينة القانونية لابد من الاهتمام بالأدلة الجنائية
وتوفير الضمانات القانونية لسلامة ومشروعية تلك الأدلة، وكثيرا ما يتبع
البحث عن الأدلة مساس بالحريات الفردية للمتهم أو استباحتها، ولما كان
الهدف من الإجراءات الجنائية، كما أسلفنا، ليس هو كشف الحقيقة بعيدا عن
احترام حرية المتهم، ما يتعين معه احترام تلك الحرية وتأكيد ضماناتها، فلا
قيمة للحقيقة التي يتم الوصول إليها على مذبح الحرية، ذلك أنه من الممكن
جدا إجبار المتهم على الكلام لكنه من المتعذر بل من المستحيل إجباره على
قول الحقيقة، ولقد قضت كل من محكمة النقض المصرية ومحكمة التمييز البحرينية
بأنه يجب ألا يعول على اعتراف المتهم مهما كان صادقا، مادام وليد إكراه
مهما كان قدره لأنه وإن كان بالإمكان إجبارُ الإنسانِ على الكلام إلا أنه
من المتعذرِ بل من المُستحيل إجباره على قول الحقيقة، وهو الأمر الذي
انتظمته المادة (19/د) من الدستور البحريني التي تقدم ذكرها، كما نصت على
البطلان المادة (128/1) من قانون أصول المحكمات الجزائية والتي تنص على أنه
(لا يقبل في معرض البينة أي اعتراف يدلي به المتهم إذا تبين للمحكمة أن
الإدلاء به جاء نتيجة إغراء أو تهديد أو وعد يتعلق بالتهمة المسندة إليه
صادر من شخص ذي سلطة وكاف في رأي المحكمة لجعل المتهم يفترض لأسباب تبدو له
معقولة سيجني فائدة أو ينفي شرا من نوع دنيوي فيما يتعلق بالإجراءات ضده).
ونلاحظ
على النصين سالفي الذكر أن المشرع لم يكتفِ بتحريم تعريض أي إنسان للتعذيب
المادي أو المعنوي، بل مد ذلك التحريم إلى الإغراء أو المعاملة الحاطة
بالكرامة الإنسانية، وجرّم َهذا الفعل وأبطل كل قول أو اعتراف من قبل
المتهم يثبتُ صدوره تحت وطأة التعذيب المادي أو المعنوي أو المعاملة غير
الإنسانية للمتهم أو حتى مجرد التهديد بها، بمعنى أنه لا يشترط في وسائل
التعذيب أن تكون من الخطورة بحيث تؤدي لوفاة المتهم أو حتى أن تترك آثاراً
في جسمه، بل بدرجة الاعتداء على حرية ذاك المتهم أو المساس بكرامته، فإذا
صاحب الاعتراف شيء مما تقدم من صنوف التعذيب أو حتى مجرد التهديد بها أو
بأحدها كان البطلان حكم الاعتراف المتولد عنها. وتعليل ذلك البطلان من
الناحية القانونية أنه من شروط صحة الاعتراف أن يكون ناتجاً عن إرادة حرة
شرط الإرادة في الاعتراف شرط موضوعي يتوقف عليه وجود العمل الإجرائي ذاته،
فالإرادة هي خالقة الاعتراف كعمل إجرائي، وبدونها لا يكون له كيان قانوني،
ولقد ورد عن الخليفة عمر قوله: (ليس الرجل أمينا على نفسه إذا أوجعتَه أو
ضربتَه أو أوثقتَه)، ولما كان البطلان هنا متعلقا بالنظام العام على أساس
المحافظة على المصلحة العامة وليس مصلحة خاصة، فلا يجوز التنازل عنه كما لا
يجوز افتراض صحته حتى ولو رضي صاحب الشأن؛ لأن رضاه معناه التنازل عن
التمسك بالبطلان، وهو أمر غير جائز، ويتعين على المحكمة متى استشعرت عدم
نزاهة الدليل ألا تعول عليه؛ عملا بحكم المادة 253 من قانون الاجراءات
البحرينية، ومن ثم ينبغي على المحكمة أن تقضي ببطلانه من تلقاء نفسها.
ويكون كذلك إذا عُرِض المتهم لأي صنف من العنف، عملا بقاعدة بطلان الدليل
المتولد خلافا للشرعية الإجرائية.
وعندما يقع الإخلال بمبدأ الفصل
بين السلطات، وتغدو السلطة التشريعية سائرة في ركب السلطة التنفيذية، أو
عندما يصل بها الأمر لحد اغتصابها السلطة التشريعية لنفسها، تتربص بالقضاء
للقضاء على استقلاله، فتتقهقر حريات الأفراد، وتتسع سلطة الإدارة، وتكون
أكثر تحررا من القانون، وهي بطبيعتها نزاعةٌ لذلك، فإذا وقعت أحداث تتفاجأ
سلطات الأمن بها، فتظهر بمظهر المقصر غير العالم بما يحدث، وهو أمر غير
مستحب من جانبها، في هذه الحالة، فإن سلطات الأمن، فضلا عما تقوم به من
اعتقالات عشوائية، تحاول جاهدة تدارك تقصيرها في منع وقوع الجرائم، باصطناع
الأدلة لمن تنسب إليهم ارتكاب الحوادث، وقد تصل سلطة التحقيق في سبيل
إثبات ذاتها، لحد ممارسة الاعتداءات الجسمية على المعتقلين، علها تنتزع
منهم اعترافا يقوم مقام الدليل في إثبات التهمة عليهم، وتعمَد من ثم لتأخير
عرض المتهمين على النيابة او قاضي التحقيق، مما ينطوي عليه ذلك الاحتجاز،
بلا سند، من تعدٍ على الدستور، والادارة تريد من ذلك أمرين أولهما: الإمعان
في تعذيب من صمد من المتهمين، وثانيهما زوال آثار التعذيب ممن اعترف من
المعترفين المتهمين.
ولاشك في أن هذا السلوك يكشف عن قصور وعجز عن
كشف الحقيقة، وتقديم متهم بلا تهمة للقضاء، أو بتهمة بغير دليل، أو في أحسن
الفروض بدليل فاقد للمشروعية. ولاشك أن هذا يشكل جريمة تضليل للعدالة؛ ذلك
أن إقامة العدالة تعني تحقيق دليل الاتهام بالقدر نفسه الذي يتم به تحقيق
دفاع المتهم، كما أنه تحقيق للتوازن بين خضوع الجميع للقانون وتمتعهم
بميزاته، فإذا أصبح الإنسان متهماً فإن ذلك غير كاف للحط من كرامته وإيذائه
بغية إدانته واعتبار ذلك وسيلة لإقامة العدالة بين أفراد المجتمع. ولقد
قيل بحق، إن الإجراءات الجنائية في دولة ما هي الصورة الدقيقة للحريات في
هذا البلد، وعليه فإن تعذيب المتهم لحمله على الاعتراف بجرم نسب إليه،
يعتبر هدما لجانب كبير من جوانب الشرعية الإجرائية، فضلا عن كونه جريمة
معاقب عليها في سائر التشريعات الوطنية على أنها جريمةٌ مشددة عقوبتها
الحبس بموجب المادة 232 من قانون العقوبات البحريني فضلا عن الظرف المشدد
وفق المادة 75من القانون ذاته والتي تُضاعف العقوبة إذا وقعت من موظف عام
أو إذا ارتكبت الجريمة بانتهاز فرصة عجز المجني عليه عن المقاومة وفي ظروفٍ
لا تمكنُ الغير من الدفاعِ عنه، وهو حالُ من يعتقل، أو بالأحرى يختطف في
جُنحِ الليلِ ويغيّبُ لأسابيعَ وربّما لأشهر قبل أن يعرف أهلُه أنه لايزالُ
على قيد الحياة من خِلال مكالمة هاتفية مدتها دقيقةً واحدة إن طالت.
خلاصة القول؛ فإن أمر التحقيق في الجرائم دقيق جدّاً، إذ يقتضي إقامة
توازن دائم بين الوسائل الرامية إلى المحافظة على المجتمع بالكشف عن
الجرائم ومعاقبة مرتكبيها؛ وبين حقوق المواطنين في صيانة حريتهم وكرامتهم.
وضمانة هذا التوازن تتوافر في الآتي:
– سن القوانين التي تحرم
التعذيب وتجرمه، وقد ذكرنا مجموعة من تلك النصوص التي حرمت التعذيب وجرمته،
ولا ننسى أن نشير في هذا الخصوص إلى نص المادة (208) من قانون العقوبات
البحريني والتي تنص على أنه «يعاقب بالسجن كل موظف عام استعمل التعذيب أو
القوة أو التهديد بنفسه أو بواسطة غيره مع متهم أو شاهد أو خبير لحمله على
الاعتراف بجريمة أو على الإدلاء بأقوال أو معلومات في شأنها. وتكون العقوبة
السجن المؤبد إذا أفضى استعمال التعذيب أو القوة إلى الموت».
وجريمة
التعذيب، كأية جريمة يتطلب لقيامها عدد من العناصر، منها مادي وهو النشاط
الإجرامي للفاعل والنتيجة التي استهدفها، وعلاقة السببية بين النشاط
والنتيجة. وجانب معنوي، ويقصد به الصلة بين إرادة الجاني والجانب المادي
لجريمته، وهو القصد الجنائي.
ويضيف المشرع عناصر أخرى في البنيان القانوني لجريمة التعذيب، فإن تخلف أحدها امتنع قيام الجريمة.
ومن
العناصر الخاصة، كون الجاني موظفاً عموميّاً، وكون المجني عليه متهماً،
فإذا لم يكن الجاني موظفاً عموميّاً، كنا أمام جريمة اعتداء على جسم الغير،
وكذلك الحال إن لم يكن المجني عليه متهماً.
ويعتبر فاعلاً أصليّاً
من قام بالتعذيب ومن أمر به، أو أذن به على رغم عدم اتصاله بفعل التعذيب
ذاته، وخصوصاً إذا صدر الأمر والأذن أمام المجني عليه، فإن رؤيته أو سماعه
الأمر بالتعذيب أو الأذن به، أكثر ترويعاً من التعذيب نفسه وأشد إرهاباً
له، باعتبار أن التعذيب أو التهديد به إنما يقصد به حمل المتهم على
الاعتراف بما نُسبَ إليه أثناء التحقيق معه. ورجل السلطة، في عدوانه على
الأفراد، بتعذيبهم أو بتهديدهم أو إغرائهم، لحملهم على الاعتراف بما يريد،
يدرك مدى سطوته المستندة إلى سلطته ويستثمر علاقة الخضوع من الأفراد تجاه
السلطة، دون أن يملكوا حيال بطشه دفعاً؛ ولا منعاً وخصوصاً إذا كان المجتمع
يعيش ثقافة الخوف من جانب الضحية وثقافة الافلات من العقاب من جانب الجلاد
والجاني، لأن الجاني يستمد سلطة وظيفته وسطوتها أسوأ استثمار فيما ينطوي
عليه سلوكه من اعتداءات على حقوق فردية ومصالح قانونية تبدأ بمصادرة حق
الفرد في صيانة مكنوناتِ نفسه وفي سلامة جسمه وحياته، وحقه في الدفاع عن
نفسه، وتصل إلى تضليل العدالة باعتراف كاذب قد ينزله القضاء منزل صدق، ثقة
منه في حيدة الإدارة ونزاهتها.
والأمر بالتعذيب بطريق الترك أو
الامتناع، هو أكثرُ الفروض وقوعاً في العمل، فإذا وقع التعذيب على المتهم
لحمله على الاعتراف من موظف أمام رئيسه في العمل أو اتصل بعلم ذلك الرئيس،
ولم يأمُر مرؤوسيه بالكفِّ عن تعذيب المعتقل؛ فإن الرئيس يكون هنا قد عبر
عن إرادته بتعذيب المتهم لحمله على الاعتراف عُنوَةً، وذلك هو جوهر الأمر
بالتعذيب المحرم شرعاً والمنهي عنه من قبل المشرع الدستوري والمواثيق
العالمية والمعاقب عليه من قبل القوانين المحلية والدوليةِ بوصفه جناية
عقوبتها السجن مدة طويلة، فضلاً عن العقوبات التبعية.
2 – إيجاد جهاز
للشرطة القضائية واثق بمقدرته العلمية والفنية والبشرية وقادر على فرض
وجوده مع احترام حقوق المواطنين، إذ تفتقر أجهزة الشرطة في الغالب إلى
العناصر ذوي الثقافة العلمية العالية والتخصص، كما أنها – أي أجهزة الشرطة –
تفتقر إلى المختبرات العلمية وإلى أدوات الاتصال السريع، وإلى التخطيط في
مكافحة الجرائم والوقاية منها. فجهاز الشرطة الذي يعتمد على مقدرته الفنية
في وقاية المجتمع من الإجرام وملاحقة المجرم لا يرى نفسه مضطرا إلى اللجوء
سوى إلى الأساليب العلمية والقانونية للقيام بمهامه وتتبع آثار المجرم وجمع
الأدلة بحقه. وأن تهيئة جهاز الشرطة ليكون على مستوى المسئولية يتطلب رفع
ملكاته وتجهيزه بصورة فنية وتمكين العناصر الصالحة والمختصة من دخوله، فلكي
تكون للشرطة فاعليتها وتجد المساندة من قبل المواطنين يجب أن تكون محترمة
منهم، وهذا لا يمكن أن يحدث إلا عن طريق الاحترام المتبادل، أي عندما يشعر
المواطن أن الشرطي يحترمه ويسهر على أمنه وسلامته بكل جد وإخلاص ويجد لديه
كل مساعدة ممكنة. عندئذ يبدأ المواطن باحترام الشرطي ومعاونته في إتمام
رسالته.
– ضمان السماح بالاتصال بالسجناء أو الموقوفين، فكثيراً ما
يقع التعذيب عندما يكونون محتجزين بمعزل عن العالم الخارجي وغير قادرين على
الاتصال بمن يستطيع مساعدتهم أو معرفة ما يحدث لهم. ومن ثم يتعين الكف عن
ممارسة احتجاز السجناء أو الموقوفين بمعزلٍ عن العالم الخارجي. وينبغي أن
يضمن مثول جميع السجناء أمام هيئة قضائية مستقلة عقب احتجازهم، ودون إبطاء،
والسماح للأقارب والمحامين والأطباء بحق الاتصال بالمحتجزين فوراً وبصفة
دورية.
– عدم احتجاز المعتقلين في أماكن سرية، إذ يحدث التعذيب في
الغالب في الأماكن السرية، وفي كثير من الحالات يعقب ذلك الإعلان عن
«اختفاء الضحايا». ولذلك يجب أن يضمن عدم احتجاز السجناء أو الموقوفين إلا
في أماكن احتجاز معترف بها رسمياً، وأن تُقدم على الفور معلومات دقيقة عن
اعتقالهم وأماكن احتجازهم لأقاربهم ومحاميهم وللنيابة وللمحاكم. وينبغي
توفير وسائل قضائية فعالة في جميع الأوقات يمكن من خلالها لأقارب السجناء
ومحاميهم أن يعرفوا على الفور مكان احتجازهم والسلطة التي تحتجزهم وضمان
سلامتهم.
– توفير الضمانات الكافية أثناء الاحتجاز والاستجواب، فيجب
أن يُحاط جميعُ السجناء علماً بحقوقهم على الفور، ومنها حق التقدم بأي شكوى
من معاملتهم والحق في أن يبت قاض، دون تأخير، في قانونية احتجازهم. ويجب
أن يحقق القضاة في أي دليل على وقوع تعذيب وأن يوصوا النيابة العامة
بملاحقة من وقع منه فعل التعذيب بالمعنى الواسع لهذا المصطلح وأن يأمروا
بالإفراج عن السجين إذا كان احتجازه غير قانوني. وينبغي أن يحضر محام مع
المحتجز خلال الاستجواب وألا يقتصر حضور المحامي مع المتهم على مرحلة
المحاكمة كما يرى بعض الفقه التقليدي إذ قد تفوت على المتهم، بسبب عدم
تمكينه من إحضار محاميه الذي اختاره أو وافق عليه، أمور لا يمكن تداركها
بعد ذلك. كما ينبغي للحكومات أن تضمن توافق ظروف الاحتجاز مع المعايير
الدولية لمعاملة السجناء. ويتعين أن تكون السلطة المسئولة عن الاحتجاز
منفصلة عن السلطة المسئولة عن الاستجواب، وأن يقوم مفتشون مستقلون بزيارات
دورية غير معلن عنها مسبقاً ودون قيود، لجميع أماكن الاحتجاز.
– وإلى
جانب جهاز الشرطة القادر؛ لابد من وجود قضاة مستقلين أكفاء واثقين من
أنفسهم ومن عملهم حريصين على جعل شخصيتهم وحكمتهم ومواطنيتهم خير حامٍ
للمجتمع وللحرية الفردية.
– لابد من وجود رقابة على أداء جهاز الشرطة
لعملهم والتزامهم بالقانون، فلا تكفي القوانين وحدها لمنع التعذيب للقضاء
على ظاهرة تعذيب المتهمين. كما ينبغي، وعلى وجه السرعة، التحقيق في دعاوى
التعذيب، وذلك بإجراء تحقيق نزيه وفعال في جميع شكاوى التعذيب، تتولاه هيئة
مستقلة عن الجهات المتهمة بارتكاب التعذيب. كما ينبغي إعلان الوسائل
والخطوات المتبعة في هذا التحقيق والنتائج التي يتمخض عنها. كما يجب وقف
المسئولين المشتبه في ارتكابهم التعذيب عن القيام بواجبات عملهم خلال
التحقيق. ويتعين توفير الحماية للمتظلمين، والشهود، وغيرهم من المعرضين
للخطر، من أي ترهيب أو أعمال انتقامية قد يتعرضون لها. وإذا ما أظهرت
التحقيقات مسئولية المشتبه في ارتكابهم لأعمال التعذيب؛ فلابد من تقديمهم
إلى المحاكمة، وهذا المبدأ ينطبق أيّاً كان المكان الذي وقع فيه التعذيب
وأيّاً كان أشخاص مرتكبيه أو وضعهم، وبغض النظر عن المكان الذي ارتكبت فيه
جريمة التعذيب أو شخص الضحية، دون اعتبار للوقت الذي انقضى على ارتكاب
الجريمة، إذ لا يجوز أن تسقط بالتقادم؛ لأنها جريمة خصها المشرع الدولي
والوطني بمعالجة خاصة، نظرا لطبيعة وماهية تلك الجريمة وبعدها الإنساني
الذي شكل تهديداً للأمن الاجتماعي؛ مما اقتضى أن تكون هذه الجريمة جناية
دائماً وخارجة عن قاعدة السقوط بالتقادم لأنها. وكما صرح كوفي عنان بأن
التعذيب وصمة عار على جبين الإنسانية .
وختاما، لا يفوتني أن أنوه
إلى ما ورد بالفقرة (1230) من تقرير بسيوني التي تنص على: «توضح المعلومات
التي تم الحصول عليها من مصادر مختلفة، ولاسيما أثناء المقابلات مع الأشخاص
الذي ادعوا أنهم ضحايا لسوء المعاملة والأشكال الأخرى من الإساءة البدينة
والنفسية أثناء وجودهم في مراكز التوقيف التابعة للدولة، أنه كان هناك
أنماط معينة من السلوك التي كانت تنتهجها الأجهزة الحكومية، ولم تكن هذه
الأنماط موحدة باستثناء ما يتعلق بسوء المعاملة مع فئات معينة من الموقوفين
بما في ذلك بعض أفراد الطاقم الطبي الذين ألقي القبض عليهم بتهم مرتبطة
بأحداث مجمع السلمانية الطبي والشخصيات السياسية الأربعة عشر الذين كانوا
موقوفين في سجن القرين. وكان الغرض في الكثير من هذه الحالات هو الحصول على
إفادات أو اعترافات تجرم أولئك الأشخاص المقبوض عليهم، وفي حالات أخرى،
كان الغرض المقصود من الحصول على إفادات من بعض هؤلاء الأشخاص هو استخدامها
ضد أشخاص آخرين ينتمون إلى الجماعة نفسها».
وهو توثيق لتعذيب يحدث
بشكلٍ منهجي ولايسع أحدٌ الزعم بأنه سلوكٌ فرديٌ؛ لأن التقرير يُعتبر
مستنداً رسميّاً لكونه مُعدّاً من جهة مكلفة بخدمة عامة من قبل السلطة
المختصة قانوناً، والكلُّ يعلم أن لجنة بسيوني شُكِّلتْ بأمر ملكيٍ وقدمت
تقريرها إلى ملك البلاد الّذي قَبِله بلا تحفظٍ، بل وأمر بتنفيذ محتوياته
وشكل لجاناً عُليا من أجل ذلك؛ فإن أي أنشطة أخرى من أي نوع كانت ومن أية
جهة صدرت، وتحت أي مسمى أو مبرر تمت لا يمكن أن تكون بمنجاة من المُلاحقة
ومن ثم العقاب، وعليه؛ فإن حق كل من تضرر من إجراءات أو تصرفات جاءت
بالمخالفة للنُّصوص الدستورية والقانونية والمواثيق الدولية سالفة الذكر،
في مقاضاة من خالف الدستور والقانون والنهج العالمي الصريح، وإن لذلك
المضرور حقّاً مكفولاً قانوناً، ولا يسقُطُ بالتقادم ، ولا يشمله أي عفو
وإن أي تفسير آخر يعد ليّاً للنصوص تحت ستار التفسير وهو ما لا يملكه أحد.
والله من وراء القصد…