عقلانية الدولة، أي دولة، تكمن في أشياء عدة أهمها وَسطيتها، بمعنى أن تكون الناظم لمكونات المجتمع وعناصره المختلفة . إن مكانها هو الوسط إذا شاءت أن تكون دولة راشدة، رشيدة، حكيمة في إدارة الأمور وتوجيهها بما يخدم استقرار المجتمع وتطوره الآمن .
لا يوجد في العالم كله مجتمع من لونٍ واحد، أو من رأي واحد، أو من مكوّن اجتماعي ثقافي سياسي واحد، فالمجتمعات قائمة على التعدد والتنوع تبعاً لتعدد المصالح والأفكار والمنابت الاجتماعية . والمجتمع السوي هو ذاك الذي تتعايش فيه هذه المكونات المختلفة، وهذا التعايش لا ينفي الاختلاف والتناقض أحياناً في ما بين تلك المكونات، لكنه تعايش يؤمن إدارة هذا التناقض وفق قواعد التسامح والجدال بالتي هي أحسن، وليس سوى المؤسسات التمثيلية الديمقراطية وسيلة لتأمين هذا التعايش وتلك الإدارة الرشيدة للتناقضات أو اختلاف المصالح، ففي هذه المؤسسات، من قبيل البرلمانات والمجالس البلدية والنقابات والاتحادات الجماهيرية، يعمل أصحاب الآراء المختلفة ويتعلمون بالمراس والتدريب أهمية الوصول إلى التوافقات والمشتركات، لكن يظل أن الدولة مطالبة بأن تقوم بهذا الدور الوسطي، ولا نقول المحايد بالضرورة، لأن المسألة نسبية، في أن تكون ناظماً لتعايش مختلف الآراء والأفكار وأنماط السلوك والمعيشة . وكلما نجحت الدولة في أداء هذا الدور، تعافى المجتمع وتطور بسلاسة نحو المستقبل، فتجربة الحكومات الشمولية التي فرضت رأياً واحداً وفكراً واحداً وحزباً واحداً وأسلوب معيشة واحداً، قادت وتقود، كما ترينا التجربة، إلى الخراب . ولسنا في حاجة إلى تعداد الأمثلة والنماذج، فهي ساطعة فاقعة للأعين .
حين تميل الدولة إلى محاباة هذه القوة أو تلك، وعزل هذه القوة أو تلك لأسباب براغماتية، فإنها تضر بالوسطية المطلوبة منها، التي تعني في ما تعني، التوازن والعدالة في تقديم الخدمات الاجتماعية الملقاة على عاتقها تجاه مواطنيها قاطبة الذين لا يصح تقسيمهم، لأن الأوطان ينبغي أن تتسع للجميع الذين لهم حق على دولهم بأن تؤمن لهم الحياة الحرة الكريمة التي تتساوى فيها الفرص للجميع، والتي يراعى فيها احترام الخصوصيات الثقافية والدينية والعرقية، عبر إشاعة ثقافة التسامح وغرسها في الأذهان من خلال البرامج التعليمية والتنشئة المجتمعية، ليصبح ذلك قاعدة ينطلق منها المجتمع، وعليها ينمو ويتطور .
إذا ما اختل هذا الدور الوسطي للدولة، تغلبت الهويات الفرعية الجانبية واستفحلت وتخندقت حول نفسها باحثة عن أمان وهمي داخل صدفات هشّة، فتتعمق الانقسامات المجتمعية، وتقوم جدران العزلة بين أصحاب هذه الهويات المختلفة، وتضعف القواسم المشتركة، وتتضاءل أهمية الهوية الوطنية الجامعة التي يفترض فيها أن تستوعب في ثناياها الهويات الفرعية كافة، لتجعل منها عامل إثراء، لا عامل فرقة .
لفهم ما يجري اليوم من استفحال لدور الهويات الفرعية وصخب شعاراتها وبرامجها في عددٍ من بلداننا العربية، علينا أن نفتش عن الخلل المزمن الذي انتاب أداء الدولة لدورها الوسطي، المتوازن، وميلها إلى الاعتماد على تحالفات طارئة أو ثابتة، وبحثها عن الأمان في إطار ضيق، فئوي أو طائفي أو حزبي، وانغلاقها عن المكونات الأخرى في مجتمعاتها التي تتوطد لديها مشاعر التهميش والعزلة، حتى تحين لحظة الأزمة، لتكتشف الدولة ضيق القاعدة الاجتماعية الملتفة حولها بالقياس إلى ما في المجتمع من رحابة وتنوع، فيغدو ما اعتبر دائماً عامل قوة ونُصرة، عامل ضعف .