في عيد «جمّول»، يتوقف كثيرون عند القصص الفردية للمقاومين، ليضعوها في سياق يتيح لهم فهم خياراتهم ودوافع صمودهم والتزامهم. المقاومة ليست سلاحاً فحسب.. هي فكر وعقيدة وقناعة بأن الموجود ليس الطريقة الوحيدة للحياة
جنـى نخـال
«من كلّ عمود آنتين (هوائي) بدّو يفوت الاستعمار على قلب بيوتنا». بهذه الكلمات، بل بهذا الوعي، نقل رسّام من الحزب الشيوعي فكرة «جمّول» إلى مراهق من بلدة كفرحمام. انخرط هذا الصبي في صفوف «الحزب الشيوعي اللبناني» في أواخر السبعينيات، وبدأ عمله، من دون أن يعي أهمية ما يفعل.
أُرسِل إلى القرية في العام 1982، ولم يجر الاتصال به إلى ما بعد سنة، عاش خلالها في قريته كأي شخص آخر، يحاول معرفة العدو من الصديق، والمحتلّ من المقاوم. عاش هناك تحت تأثير القاعدة الإسرائيلية التي تقول: «اللي معنا معنا، واللي مش معنا ضدنا». كما كان ممنوعاً على الرفاق أن يتواصلوا معاً. «شوي شوي، صار ممكن من الحديث أن نستشفّ مين معنا».
في تلك المرحلة، كان القلق من المتعاملين مع الاسرائيليين حاضراً، لذا كان هناك خوف دائم من الانفتاح على الآخرين. وفي الوقت نفسه، الحاجة ملحة لمعرفة الآخر، بسبب التهديد الذي تعيش البلدة تحته، والعمل على التصدّي له. وبما أن الشباب في ذلك الحين كانوا يعيشون تحت إغراء دائم للانضمام إلى «ميليشيا لحد»، اقترح إنشاء «فرقة كشفية». يذكر مقاومنا، كيف اجتمع مع عدد من الشبان في غرفة صغيرة. وهناك، من خلال الأحاديث «انكشفنا شيوعيين لبعضنا البعض».
بعدها، حصل أول اتصال معه. مرّ بجانبه شخص لم يكن قد رآه من قبل، وهمس في أذنه «رح يكون إلك رسالة في المكان الفلاني، تحت حجر لبن، في عبّارة الساعة 6». ذهب إلى المكان المحدّد، ووجد رسالة مكتوباً عليها: «تحية رفيق، نزال عشتورة. البس طاقية على راسك». نفّذ التعليمات. توجّه إلى شتورة. وفي ساحتها، مرّ بجانبه رجل وهمس له بسرعة «إطلع في سيارة المرسيدس البيضاء». صعد في السيارة، فطلب منه السائق أن يخفض رأسه ويغمض عينيه. نزل من السيارة، وقد عُصِبَت عيناه، ودخل بيتاً لن يخرج منه إلا بعد ثلاثة أيام بلياليها.
خلال هذا الوقت، كان رفيقاه الوحيدان، مكتبة ورجلاً حنوناً هادئاً، يدخل إليه الطعام ويهدّئ من روعه حين تضيق به الغرفة. بعد هذه الأيام الثلاثة، توجّه إلى البقاع. ولأوّل مرّة، بدأ تدريباً عسكرياً حقيقياً. تعلّم كيف يقوم بمختلف المهمات والأدوار، ويتحمّل المسؤولية أينما وُجِد على الجبهة.
كان اسمه «وعد». وكان يمكن أن يكون «ثائر» أو «أبو الليل»، أو أيّاً من أسماء الرفيقات والرفاق الذين نسمع قصصهم. هي قصص أشخاص قاوموا المحتلّ. لا تهمّ، هنا، العمليات النوعية التي قام بها «وعد» بعد هذه الأحداث، والرفاق الذين تعرّف إليهم وتعلّم منهم، وقضى أجمل أوقاته معهم. وليس مهماً أيضاً ذكر أنواع الأسلحة التي استعملها، ولا أيام الاعتقال الطويلة. كلّ هذا، سيصبح نتيجة لما سردناه، «تحصيل حاصل». ما يهمّ، هو أن المقاومة كانت ولا تزال. قد نراها الآن غارقة تحت ستار من الديماغوجيا واللهاث الفارغ وراء النجاح من دون تأسيس فعلي لقاعدة فكرية أيديولوجية تكون هي مفتاح التحرّر. إلا أنها أولاً، التزام فردي ومجتمعيّ بتطوير الذات والمجتمع والبحث، كيفما استطعنا، عن أساليب لقلب موازين الواقع. «التزام فردي» أقول، والمعنى في ما مرّ به رفيقنا خلال أكثر من سنة ونصف السنة. كان يعيش في جهل تام لمصيره ولما يفعله ولدوره.
فلنتصوّر أنفسنا دقيقة مكانه، نعيش خياراً اتخذناه، تمليه علينا قراءتنا للأحداث، لكن الأحداث والمجتمع والجهة التي تميل إليها موازين القوى في الوضع الحالي تقول إننا مخطئون؟ عندها يمكن أن نفهم قوة أولئك الذين اختاروا هذه الطريق، برغم رياح «الواقعية» التي تعصف بمجتمعنا؟
لم تكن المقاومة بالنسبة إليهم عبارة عن سلاح يحملونه فحسب. كانت فكراً وعقيدة وأيديولوجيا، بكل ما تحمل تلك الكلمات من التزام وتعلّق بالقضية واقتناع بها. فالاحتلال لم يكن يوماً محدوداً بحدود أرضي الخاصة، أو منطقتي أو أهلي، ولم يكن شكله معرّفاً بالجندي الإسرائيلي الذي يوجّه مدفعه باتجاهي، بل هو الاستعمار بأشكاله المتعدّدة، يهدّد كل حرّة وحرّ في الأرض.
إنه العدو نفسه الذي يقول بإنه يحقّ لجيش ما أن يحتلّ أرض شعب آخر، وأن تربح شركة عملاقة الملايين من حصاد أرض الفلّاحين المعدمين، وهو العدو ذاته الذي يضع نفسه مقرّراً لمصائر الملايين ومحدِّداً ثقافتهم وتاريخهم وانتماءهم. إنه «الفكر الأبيض» (من «الرجل الأبيض») باستعماله لعقولنا وأرضنا وتكريسه وعينا لخدمته مصالحه التي هي بالطبيعة ضد مصالحنا.
هي المقاومة إذاً، جاءت لتقول للإمبريالية بأن لاستعباد الشعوب نهاية، وأن لسجن الفرد في نواميسها كما لحريته على حدّ سواء، سيطرة على وعيه، وأن الموجود والمطروح والممكن، ليس الطريقة الوحيدة للحياة. جاءت المقاومة كفكرة مجتمع وعى لواقعه، ولكنها قبلاً، فردٌ فتحت عينيها يوماً، ورأىت قيودها واضحة جلية، توقّف تطوّرها، فإذا تطوّر الإنسانية جمعاء، وتعيق تقريرها لوجهتها في الحياة. من أصغر التفاصيل إلى أكبرها، كانت مقاومتنا وتكون، ضد كل حركات تغييب وعينا وبالتالي السيطرة على شكل حياتنا وتطوّرها. جاءت المقاومة أوّلا لتقول بأن فكرة الملكية زائلة، لأنها تنتهي بانتهاء حكم القوي، ولأن الاستعمار جاء يوماً وقسّمنا دويلات وأشباه أوطان نصغر يوماً بعد يوم بصغر حدود الملكية.
أهدي هذا النهار، بساعاته، ونسماته، ولعب الضوء على جدرانه إليها. من حملتْ سلاحاً وتركت عائلتها ومشت باتجاه الجدار، جدار المجتمع والمحتلّ وقاتل النهار عند انبثاقه. وأهديه أيضاً إليه، من يرى أن التصاقه بالقضية هو التصاقه بالحياة، ومن يرى في عيون الآخرين توقاً إلى النور، مماثلا لتوقه. لهما ولكلّ محبّات ومحبّي الضوء، ينفلش على التلال دون أن يبقي زاوية في الظلمة، يطلع رغم امتداد يد الظلم فوق عيوننا، أهدي هذا اليوم.
صحيفة الأخبار اللبنانية
الكاتب: جنــى نخــال
15 سبتمبر 2012