نص الحوار الذي أجراه اسكندر حبش مع كريم مروة في جريدة “السفير” 4/9/2012
يقول إنه ليس مؤرخا، ومع ذلك، يعيد كريم مروة في كتابه الصادر حديثا بعنوان «قادة تاريخيون كبار في ثورات القرن العشرين» (الدار العربية للعلوم ناشرون) قراءة بعض معالم القرن المنصرم، عبر ثوراته، وكأن ثورات الربيع العربي، تدفعه إلى ذلك. ويضم الكتاب سيرة تلك الثورات عبر سيرة 37 قائداً من قاداتها.
حول كتابه هذا الذي يقع في جزءين هذا الحوار.
تعتبر في مقدمتك أن هذا الكتاب وكأنه ولد من «الربيع العربي»، بأي معنى تتذكر هؤلاء «القادة» في ظلّ ما نشهده حاليا؟
الكتاب جاء في أساسه وبقرار واع من قبلي، انطلاقا مما قدمته لنا الثورات العربية المعاصرة مما هو إيجابي ومما هو سلبي. ذلك أنني رأيت أنه من المفيد أن أذكر ثوارنا الجدد بأن للثورات أصولا وأن لها تواريخ وأنها في القرن العشرين قامت ضمن شروط تاريخية كانت تقتضي قيامها، فحققت انجازات ووقعت في إخفاقات وفشلت جميعا في نهاية المطاف قبل أن ينتهي القرن. أردت أن أقول لثوارنا الجدد إن عليهم أن يقرأوا التاريخ ويحاولوا استخلاص الدروس منه، حتى لا يقعوا مرة ثانية في ما وقعت فيه الثورات السابقة. وأردت في الآن ذاته، أن أشير إلى أن الثورات المعاصرة قامت في شرط تاريخي ضروري لقيامها. ولكن من دون جميع موجبات ذلك الشرط. فوقعت فيما وقعت فيه من نكسات، رغم الإنجاز العظيم الذي حققته بإسقاط رموز أنظمة الإستبداد في بلدانها، وتتهيأ لإسقاط من تبقى من تلك الرموز.
بهذا المعنى الذي تُحذّر منه، ألا تجد أن ثمة انزياحا يتمظهر بطريقة ما، للثورات الحالية، وبخاصة ذهابها إلى أنظمة حكم إسلامية؟
هذا بعض ما أردت أن أقوله، ليس فقط تحذيرا للثوار من الاستمرار في الوقوع في الخطأ، وإنما أيضا للقول بأن ما قام به الثوار، وهو أساسي، إنما وضع نظام الاستبداد القديم في مرحلة الانتهاء منه ومن احتمال عودته. أقول ذلك وأنا أدرك معنى ما أشرت إليه أنت من انزياح في مسار الثورة تمثل في احتواء التنظيمات الإسلامية للثورة بسبب العفوية الطاغية على الثورات. وعندما أشير إلى العفوية لا أريد أن يفهم من ذلك ما يمكن اعتباره إساءة إلى هذه الثورات. فهي برغم عفويتها قد حققت انجازا كبيرا في أنها أسقطت أنظمة استبداد عاشت طويلا في بلداننا وعاثت فيها قهرا وفسادا وإفسادا وتخلفا. بهذا المعنى، وبرغم كل المحاذير التي تشير إليها الوقائع القائمة حاليا والوقائع المحتملة، فإنني من الذين يعتبرون أن التنظيمات الإسلامية لن تستطيع، وأكاد أجزم بذلك، أن تنشئ نظاما استبداديا باسم الدين كما تفهمه وكما تحاول أن تعممه في بلداننا. لكن ذلك الذي أتحدث عنه وأتنبأ به، إن صح التعبير، لا يتمّ بشكل عفوي، الأمر الذي يستدعي من الثورة والثوار وتنظيماتهم القديمة والجديدة أن يستخلصوا الدروس من تجربتهم الخاصة وأن يتوحدوا في مواجهة محاولات الإسلاميين إقامة نظام استبدادي من نوع جديد وأن يضعوا برنامجاً حقيقياً وواقعياً في الآن ذاته للمرحلة المقبلة، تخلصا من العفوية وارتقاء متعاظما بالوعي عندهم.
من التوصيفات التي قرأتها حول «الثورات»، نجد ما يعتبره غويتيسولو بأنها «خرف البطريرك» لا ربيع الشعوب. ما رأيك؟
لا أوافق على هذا الرأي. فأنا مصرّ على اعتبارها ربيعا حقيقيا ولا أقول ذلك تعسفا بل استنادا إلى ما أنجزته هذه الثورات. وهو برأيي كبير ومغاير لما كنّا نتصوره انه ثابت وغير قابل للتغيير.
لماذا اخترت هؤلاء القادة، التي قد يختلف البعض معك في توصيفهم؟
في الحقيقة أردت أن أكون موضوعيا كما أصف عملي هذا من خلال قراءاتي لجميع الثورات من دون استثناء، كبيرها وعظيمها وصغيرها. وهي ثورات اختلفت من حيث نوعها وطبيعتها والقوى التي قامت بها. فهي ثورات اشتراكية في مقدمتها ثورة أوكتوبر التي افتتح بها لينين القرن العشرين بقيادته لها مع البلاشفة. ولهذه الثورة نماذج كالثورة الصينية والثورة الفيتنامية.. وهناك ثورات عديدة أخرى. وهناك الثورات الوطنية التحررية بدءا بثورة عمر المختار والخطابي والقسام وزغلول وسلطان الأطرش وأبو التمن والبارازاني وبورقيبه ولومومبا وبن بلا ومانديلا. وهناك ثورات من نوع آخر كذلك التي قادها غاندي ومصدق والخميني وجمال عبد الناصر وأتاتورك. فضلاً عن الثورة الكوبية وبطليها كاسترو وغاندي. وهناك ثورات اجتماعية ودستورية لن أدخل في تعدادها. لقد أردت من استحضار هذه المجموعة من قادة الثورات السابقة أن أشير إلى أن القرن العشرين كان بامتياز قرن الثورات على اختلافها. لكن المشكلة التي ركزت عليها في قراءاتي النقدية لجميع هذه الثورات هي أن قادتها جميعهم من دون استثناء قد وحدوا بين طوحاتهم وهي مبررة والأهداف التي ارتبطت باسم الثورات التي قادوها بمعنى أنهم شخصنوا القضية وتحولوا بنسب متفاوتة، معظمهم إن لم يكن جميعهم، إلى قادة تاريخيين لشعوبهم. وكانوا بهذا المعنى هم لوحدهم من دون سواهم يحملون أهداف الثورة والأهداف الشخصية المرتبطة بوجودهم على رأس هذه الثورات. الأمر الذي حول العديد منهم إلى قادة استبداديين بصيغ مختلفة. وقادهم هذا الأمر الذي وضعوا أنفسهم فيه ووضعوا ثوراتهم فيه، إلى الفشل الذي منيت به جميع ثورات القرن العشرين للآسف الشديد، وعلى رأس هذه الثورات أكبر ثورة في التاريخ المعاصر: ثورة أوكتوبر الاشتراكية.
التاريخ الشخصي
يأتي كلامك هذا الآن، ولكن كريم مروة لم يكن ينظر إلى ذلك بهذه الطريقة، هل هي مراجعة نقدية لتاريخك الشخصي عبر تاريخ هذه الثورات؟
سؤالك جميل ومحق. وأذكرك بأنني في كتابي «نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي» الذي صدر منذ عامين، قلت في مقدمته وأنا أتحدث عن انهيار التجربة الاشتراكية أنني أعتبر نفسي من الموقع الشخصي ومن الموقع الحزبي في آن، مسؤولا بمعنى من المعاني عن هذا الانهيار الذي انتهت إليه التجربة الاشتراكية قبل نهاية القرن. وبهذا المعنى فإنني أكرر هنا، معك، مراجعتي النقدية لتجربتي الشخصية والحزبية كاشتراكي معاصر. وأشير إلى صفة معاصر لكي أتمايز عما كنت عليه في تاريخي الاشتراكي السابق وعما كانت عليه التجربة الاشتراكية على الصعيد العالمي بشكل عام. وجوهر ما أرمي إليه هنا هو أنه إذا كان مشروع ماركس لتغيير العالم هو مشروع حقيقي، وهو حقيقي برأيي، فإن على الذين يزعمون أنهم ينتمون إلى فكر كارل ماركس وإلى مشروعه لتغيير العالم أن يدركوا أن الفكر هو تاريخي وأنه لا تقديس للفكر لا سيما إذا كان هذا الفكر علميا كما أكد على ذلك ماركس في كل كتاباته. وهو، أي ماركس، كان أول من استشرف المستقبل وهو يدافع عن أفكاره في تاريخيتها قائلا إلى من يريد أن يرتبط بالاشتراكية وبالمشروع المتصل بها لتغيير العالم عليه أن لا يجعل من الفكر الاشتراكي عقيدة جامدة وألا يسمي نفسه ماركسيا. وهنا تكمن عبقرية ماركس التي لم يتعلم منها كثيرون ممن قادوا الحركات الاشتراكية السابقة ولا سيما ممن لا يزالون أسرى الفكر القديم بتحويله إلى فكر ديني، يا للآسف. وهذا ما جعل كل الأحزاب التي انتمت إلى أفكار ماركس تقع فيما هي فيه الآن من حالة انحدار ومن حالة عجز عن الخروج من الأزمة التي تعاني منها. أقول ذلك من دون أن أدخل في التسميات، عربيا وعالميا ومن دون استثناء.
وأين لينين من ذلك كله؟
عبقرية لينين في نظري هو أنه كان يغير موقفه وأفكاره وبرامجه كلما أدرك أن هذا التغيير ضروري للنجاح في الثورة قبل أن تنتصر، وفي الثورة بعد أن انتصرت. ويشكل برنامجه المعروف بالنيب (السياسة الاقتصادية الجديدة) الذروة في هذا المعنى. لكن مشكلة لينين التي أشرت إليها في الكتابة عنه في مطلع كتابي هو أنه كان يعتبر أن الاجتهاد هو حق حصري له وأن من يخالفه في الاجتهاد هو مرتد. وهذه واحدة من خطايا لينين. أضف إلى ذلك، وهو ما أشرت إليه في الكتاب، أن تقسيمه للأممية الثانية، حتى وهو كان على حق في بعض الأسباب التي قادته إلى ذلك، قد أدى في نهاية المطاف إلى ما ساد القرن العشرين وما يسود الآن من انقسام حاد في الحركة الاشتراكية، استمرت فيه الاشتراكية الديموقراطية بصورة من الصور من خلال وجودها على رأس عدد من بلدان أوروبا الغربية. في حين انهارت عمليا كل الأحزاب الشيوعية التي انتمت إلى الأممية الثالثة التي أسسها لينين.
أجرى الحوار: اسكندر حبش
جريدة “السفير” اللبنانية
4/9/2012