ليست الصين مَن سوق للعالم مصطلح “بيريسترويكا” الذي ذاعت شهرته في الآقاق، من فعل ذلك كان ميخائيل غورباتشوف آخر زعيم للاتحاد السوفييتي المنهار، وهي مفردة روسية ترجمتها الحرفية إعادة البناء، لكن من نفذ هذه البيريسترويكا وجعل منها أمراً واقعاً هي جمهورية الصين الشعبية التي هي شأنها شأن الاتحاد السوفييتي السابق دولة بنظام اشتراكي، يقودها حزب شيوعي، وتمسك فيه الدولة بمفاصل الاقتصاد، وتتشابه مع روسيا في فرادة تاريخها السياسي، والخصائص النفسية والثقافية لشعبها . فقد اكتفى غورباتشوف بهدّ المعبد القديم، من دون أن يفلح في إقامة البديل على أنقاضه، فكان ما كان من زوال تلك الدولة الجبارة مترامية الأطراف من الخريطة الدولية، التي تناسلت عنها مجموعة من الجمهوريات متفاوتة المساحة والأهمية، جلّها بات ذات هوى غربي- رأسمالي، في خيارات التنمية وفي التحالفات الدولية، أما الصين فقد أعادت تكييف النظام الاشتراكي وتطعيمه بآليات منتخبة من اقتصاد السوق، فعقدت ما يشبه المزاوجة الخصبة بين أسلوبي التنمية، مفسحة المجال للنظام القديم أن يتحول تدريجياً، دون هزات أو فرقعات، فيتحرر بإيقاع يبدو مدروساً من القيود الأيديولوجية، لكن من دون إدارة الظهر للميراث الثقافي والحضاري للصين، الذي كان الخيار الاشتراكي في التنمية منسجماً معه، أخذاً بعين الاعتبار المساحة الشاسعة للبلد، والعدد الهائل للسكان، ما جعل من الدور القيادي للدولة في إدارة الاقتصاد مسألة محورية .
كما الأفراد الذين يعملون في صمت، هناك الدول التي تعمل في صمت وتحقق الإنجازات، فيما سواها منشغل بالضجيج من دون فعل . وحين يتعين علينا أن نضرب مثلاً على هذا النوع من الدول، يبرز اسم الصين بالذات، الماضية بدأب في تنفيذ مشروعها بأناة وصبر وصمت . ولا تبدو الصين راغبة في التورط الكبير في قضايا الساعة الدولية، ليس لأنها زاهدة في ذلك، وإنما لأنها لا تريد لقواها وجهودها أن تتشتت في ما لا تعده جوهرياً بالنسبة إليها، وهي لا تكثر من الحديث عن الأيديولوجيا، ولكنها تعمل تماماً وفق الإيقاع الذي يستجيب لمصالحها، والصين -الصامتة – تتعمد الصمت . إن عينها ليست على الحاضر فحسب، إنما على المستقبل .
حتى الآن فإن العالم العربي ما زال ينظر بعين واحدة لا تتوجه إلا غرباً، ورغم الدعوات الكثيرة للالتفات نحو الشرق، فإننا نزعم أن هناك ما يشبه الغفلة العربية، ولنقل التغافل، عن رؤية ما يمور في عالم اليوم من تحولات عميقة، ستشكل خريطة سياسية واقتصادية جديدة خلال العقود القليلة المقبلة، ومن علامات ذلك بروز الصين لا سياسياً فحسب، وإنما اقتصادياً أيضاً، وسيكون أي مسعى عربي لمد جسور التعاون معها نوعاً من الصحوة من هذه الغفلة التي طالت، لكن السائد عندنا حين نريد العودة للآخر هو التفكير في الغرب، بثقافته وأدبه واقتصاده وحضارته إجمالاً، لكننا نهمل تماماً، ماضياً وحاضراً، الفكر الهندي والحكمة الصينية، وكلاهما يعتمد على أسس بعيدة عن الإرث اليوناني والسامي، فيما علماء الغرب نفسه، المزهو بنفسه ونهضته، قد اهتموا ويهتمون كثيراً بهذا التراث النافذ العميق . وحان أوان أن يكون لنا أكثر من آخر غير الغرب، والصين في مقدمة هذا الآخر البديل