المنشور

القوة الناعمة



في
التفريق الشهير الذي وضعه غرامشي بين مفهومين مختلفين، وإن بديا في الظاهر
متشابهين، يمكن أن نعثر على المقصود ب”القوة الناعمة” . فرق غرامشي بين
مفهومي “السيطرة” و”الهيمنة”، وعنى بالأول الاستخدام المباشر لوسائل القمع
والإكراه، أي استخدام القوة لإخضاع المجتمع للقوة المهيمنة على الثروة
والسلطة، ولكنه رأى في الهيمنة ما هو أشد خطورة وفعالية في تحقيق هذا
الإخضاع، لأنها ترمي إلى تحقيق الإجماع العام على سلطة القوة المهيمنة، عبر
تكييف الأذهان لقبول هذه السلطة، باعتبارها أمراً مسلماً به، وفي الأغلب
فإن الأدوات التي تستخدم لتحقيق الهيمنة، على خلاف السيطرة، هي الأدوات ذات
الطابع الثقافي التي تجعل من المرء قابلاً بواقع ما، حتى لو كان هذا
الواقع على النقيض من مصالحه، فهو يذهب طوعاً إلى قبول هذا الواقع تحت
تأثير “مخملية” الأداة المستخدمة لإقناعه، على خلاف قبول السيطرة التي
ترتبط عادة بالقسر والإجبار، المؤدي إلى الإذعان المحمول على الخوف، فتغدو
السيطرة قرينة القوة السافرة، والهيمنة قرينة القوة الناعمة .


لكن
مفهوم “القوة الناعمة” سرعان ما دخل في سياقات أخرى أكثر شمولاً، بينها
الحقل الاقتصادي، حين يدور الحديث عن العلاقات الاقتصادية الدولية، وإذا ما
سلمنا أن هذه العلاقات قائمة على لعبة إدارة المصالح المختلفة للدول التي
تتقاطع حيناً وتتناقض في الكثير من الأحيان، فإن راسمي هذه السياسات أدركوا
بحكم الخبرة أن الإكراه بالقوة لم يعد وحده السبيل الأمثل لضمان المصالح
الاقتصادية للدول الكبرى خاصة، بحكم أنها صاحبة الجبروت الاقتصادي، لاسيما
حين يدور الحديث عن قوى على درجة من التكافؤ في العلاقة، كشأن العلاقة بين
الولايات المتحدة وأوروبا، أو بين الأولى والصين مثلاً، حيث يتعين استخدام
“القوة الناعمة” وسيلة لتحقيق التفوق على الغرماء .


أحد
أساتذة الاقتصاد في جامعة هارفارد يُعرّف القوة الناعمة بأنها “القدرة على
اجتذاب الآخرين من خلال مشروعية سياسات بلدٍ ما، ومن خلال القيم التي تشكل
أساساً لها”، ورغم أن هذا المفهوم يطبق على أهداف السياسة الخارجية
والعسكرية لدولة ما، لكن ذلك يناسب الأهداف الاقتصادية أيضاً، حيث تمكّن
القوة الناعمة دولة من الدول من تحقيق أهدافها دون اللجوء إلى الإكراه
والدفع، وبطبيعة الحال فإنه كلما زادت المنافسة، زاد الاعتماد على القوة
الرخوة، لأن رأس المال الدولي ومعظم العقول المبدعة رحالة بدرجة عالية،
بحيث يمكن أن تختار الاستقرار في أي مكان تشاء، تبعاً لعوامل الجذب التي
يقدمها هذا المكان . 


لن
يعني هذا في حال من الأحوال انتفاء الحاجة إلى استخدام القوة العسكرية في
معناها المباشر، فقد تكرر ذلك خلال العقدين الماضيين، في الحرب على البلقان
وفي احتلال العراق وأفغانستان، وفي تدخل الناتو في ليبيا، والمرجح أن هذا
سيتكرر في بلدان أخرى، لكن الجديد في الأمر أن القوة الناعمة غدت أسلوباً
فعالاً موازياً للقوة في صورتها السافرة، تبعاً للظرف الملموس الذي يقتضيه
الحال في هذه المنطقة أو تلك، أو في هذا البلد أو ذاك، فالولايات المتحدة
خاصةً حين تدرك أن جاذبية نموذجها الاقتصادي تتآكل أمام تقدم نماذج أخرى،
في الغرب وفي الشرق على حدٍ سواء، لاتتردد في استخدام تفوقها العسكري
لتعويض هذا التآكل .