المنشور

طريق التنمية المستقلة في “أرض الكنانة”



عرضنا
في مقال سابق . . “أهمية التعاون الاقتصادي بين العملاقين الآسيويين”
(الخليج الاقتصادي)، وكيف أن الهند رغم تعملقها الاقتصادي في العقدين
الأخيرين لم تختر معاندة وصد موضوعية العلاقات الاقتصادية الدولية المتمثلة
في حركة عناصر الإنتاج عبر الحدود، وتحديداً علاقاتها الاقتصادية مع
جارتها الصين . . العملاق الاقتصادي الآسيوي الصاعد بقوة في الحياة
الدولية، وذلك لتسليم وإقرار طبقتها السياسية الحاكمة، العاقلة، بموضوعية
وحتمية العلاقات الاقتصادية الدولية غير الخاضعة لرغبات الأفراد، أي للعامل
الذاتي وإن تأثرت به على خلفية إجراءات الحظر والمنع والعقوبات الاقتصادية
والحساسيات السياسية الناجمة عن حوادث تاريخية مؤثرة، كما هو الحال
بالنسبة للحساسية السياسية التي تحكم علاقة الهند بالصين الناتجة عن تورط
البلدين في حرب عام 1962 بسبب خلافاتهما الحدودية في الهيمالايا .

وكيف
أن الهند بدت منفتحة على استقبال الاستثمارات الصينية المباشرة في بعض
الصناعات وأنشطة البحث والتطوير، حيث التقت رغبة الهند في تعظيم وتنويع
مصادر تمويلها لصناعاتها ولمشاريع بنيتها الأساسية مع رغبة الصين في إيجاد
أقنية توظيف جديدة لفوائضها المالية الضخمة خارج إطار سندات الخزينة
الأمريكية والأصول الأمريكية الأخرى .

ولكن
الهند لم تستقطب الاستثمارات الصينية المباشرة لا ترفاً ولا عجزاً، أي ليس
نتيجة فساد السلطة الإدارية الاقتصادية الكلية للبلاد، رغم وجود الفساد في
أجهزة السلطة، بغية “تمصلح” وتربح فئة طبقية متنفذة، وليس نتيجة عجز سافر
في مصادر التمويل الوطنية، كما هو حال معظم الدول النامية الفقيرة، وإنما
من أجل المحافظة على وتيرة النمو العالية للاقتصاد الهندي التي كانت سبباً
في ارتقاء الهند إلى مصاف الدول الطليعية لما صار يُعرف بالاقتصادات
الصاعدة، وكان سبباً في مراكمتها لاحتياطات نقدية بلغت حتى شهر
يونيو/حزيران الماضي 290 مليار دولار وضعتها في المرتبة الرابعة بعد الصين
(45 .2 تريليون دولار)، واليابان (12 .1 تريليون دولار)، وروسيا (4 .479
مليار دولار) .

راهناً
يتعرض الاقتصاد الهندي والروبية الهندية لضغوط شديدة انعكست تراجعاً في
معدل النمو الإجمالي وتسريبات متعمدة عن احتمال حدوث هجرة لرؤوس الأموال
الأجنبية، على غرار ما حدث لبلدان جنوب شرق آسيا صيف عام 1997 في ما عرف
بالأزمة المالية الآسيوية . ولكن الهند آثرت مقاومة هذه الضغوط، من أجل
المحافظة على سيادة استقلال قرارها وخياراتها الاقتصادية الوطنية . فقد
اتخذ البنك المركزي الهندي بالفعل إجراءات سريعة يوم الرابع من مايو الماضي
من أجل تشجيع استقطاب الودائع الأجنبية للمصارف الهندية، حيث رفع سعر
الفائدة 200 نقطة فوق سعر الفائدة المعياري “الليبور”، بعد أن كانت 125
نقطة فوق سعر الليبور . كما أعطى البنوك حرية تحديد سعر الفائدة على ائتمان
الصادرات بالعملة الأجنبية .

وهذا
يقودنا إلى ما تتعرض له مصر والجنيه المصري اليوم من ضغوط دولية (من قبل
مؤسسات التمويل الدولية تحديداً) من أجل خفض الجنيه المصري . وكما فعلت
وتفعل الهند، على مصر أن لا تستسلم لهذه الضغوط، لأن الاستسلام لها تحت
ذريعة تحفيز الصادرات المصرية سيجلب معه دماراً محققاً متمثلاً في ارتفاع
المديونية وارتفاع التضخم وزيادة إفقار الفئات الفقيرة والمتوسطة . إن حزمة
المشاريع ونوعيتها (الصناعية التحويلية) التي طرحتها قبل أيام وزارة
المالية المصرية والمقدر إجمالي قيمتها بنحو 14 مليار جنيه، وتشمل مشاريع
في التعليم الجامعي والمدرسي، وبعض المستشفيات الجامعية المجانية، وتدوير
المخلفات الصلبة في المحافظات، وتطوير وتوسيع ميناء سفاجا الصناعي على
البحر الأحمر بهدف تحويله إلى ميناء محوري لتجارة مصر الدولية، خصوصاً فيما
يتعلق بتصدير الفوسفات الخام والسائل واستيراد الحبوب، وإقامة حوض عائم
لإصلاح السفن وإنشاء منطقة صناعية وخدمات لوجستية في المنطقة . . إضافة إلى
مشاريع إنشاء محطات مياه وصرف صحي، إن مثل هذه المشاريع هي الخيار التنموي
الصائب الذي يجب على الفريق الاقتصادي في النظام المصري الجديد أن يسلكه .
لقد حان الوقت لكي تطلق مصر أرجلها للريح وتلتحق وتتساند بتجمع “بريكس”
الذي يضم البرازيل، روسيا، الهند، الصين وجنوب إفريقيا .

لقد
تضعضع وضعُف موقع مصر الإقليمي والدولي نتيجة لتضحية مصر منذ وصول الرئيس
الراحل أنور السادات إلى السلطة في عام 1971 إثر الوفاة المفاجئة للرئيس
جمال عبدالناصر، باستقلالها الاقتصادي مقابل مكاسب زهيدة لم يُرَ لها أثرٌ
بائنٌ على هيكل اقتصادها الوطني طوال العقود الأربعة الماضية . ومن الصعب
قياس حجم الخسائر المصرية الضخمة، المباشرة وغير المباشرة التي نجمت عن تلك
الإدارة الاقتصادية الخاطئة . وأمام الحكم الجديد في مصر فرصة لتصحيح
المسار الاقتصادي الذي يوائم بين التزامات مصر ومتطلبات توافقها مع الكوكبة
الاقتصادية وبين مقتضيات التنمية الوطنية المستقلة على نحو ما فعلت بلدان
عديدة في آسيا وما تفعل اليوم بلدان أمريكا اللاتينية .

وتمتلك
مصر مصادر أخرى مهمة غير تلك المصادر الريعية التي كرستها الإدارات
الاقتصادية السابقة كمصادر تعتمد عليها لتوليد النمو (البترول والغاز، قناة
السويس، وتحويلات المصريين في الخارج) . وفي مقدمة ذلك القطاعان الأساسيان
اللذان يشكلان عماد التنمية المستقلة، وهما قطاع الزراعة وقطاع الصناعة
اللذان يتعين إعادة الاعتبار لهما من جديد في خطط التنمية الجديدة .