مرةً، منذ سنوات قلائل مضت، تحدث وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر عن ثورات ثلاث تجري في مواقع مختلفة في عالم اليوم في الوقت ذاته . واحدة في أوروبا حيث تتخلى الدولة الأم عن بعض وظائفها وصلاحياتها السيادية لمصلحة إطار عابر للدول، وثانية في العالم العربي والإسلامي حيث تتخلى الدولة الوطنية، مرغمة غير طائعة، عن مجالات نفوذها الحيوي التقليدية لمصالح الأصوليات الناهضة التي لا تعترف بشرعية الدولة ولا القانون الدولي، وثالثة تتمثل في انتقال مركز ثقل القرار الدولي من المحيط الأطلسي إلى المحيطين الهادي والهندي، مع بروز كل من الصين والهند واليابان كأقطاب دولية كبرى، اقتصادياً وسكانياً وعسكرياً .
لا يمكن أن ننجو من المفارقة المرة التي يشي بها حديث كيسنجر، حين نعقد مقارنة بين تضاؤل دور الدولة في أوروبا، وبين الظاهرة نفسها في عالمنا العربي الإسلامي .
في أوروبا تتم هذه الظاهرة لمصلحة تعزيز مكانة ودور الاتحاد الأوروبي، كأن مفهوم السيادة الوطنية بات ضيقاً ها هنا على كيان أكبر يوحد المصالح ويصهر المكونات المتعددة في بنية أشمل وأوسع وأكثر مهابة . أما عندنا فإن فشل الدولة الوطنية في إنجاز ما كان منوطاً بها من مهام في تحديث مجتمعاتها وتحقيق التنمية المتوازنة، قد دفع بها نحو الإخفاق .
وإذا ما استمر الحال على ما هو عليه، فعلينا توقع انبثاق كيانات جديدة أصغر فأصغر . يدفعنا ذلك إلى مشارف الاستنتاج، فنقول إن الدولة – الأمة في أوروبا قد استوت إلى مرحلة النضج – التي لا تجعلها خائفة من الاندماج في كيانٍ أوسع، يُثريها وتثريه، أما الدولة الوطنية، أو القطرية إن شئنا، في عالمنا العربي – الإسلامي فقد شارفت على مرحلة إفلاسها التام، قبل أن تنجز مهمتها، في بناء كيانات حديثة، قوية ومتطورة .
نواة تمزق هذه الكيانات وانحلالها إلى عشائر وقبائل ومذاهب كامنة في بنيتها الهشة من الأساس، فالحدود التي رسمت الدول والكيانات القائمة هي صنيعة المنتصرين في الحرب العالمية الأولى الذين قسموا بلدان هذه المنطقة بشكلٍ اعتباطي، يوائم توزيع الغنائم في ما بينهم، وما اتفاقية سايكس – بيكو إلا التعبير الأبلغ عن هذا “الترسيم” الاعتباطي .
هل نذهب أكثر في هذا الاستنتاج، لنقول إن الغرب، خاصة بريطانيا وفرنسا، وهما يتقاسمان مناطق النفوذ في منطقتنا كانتا “تقيمان” كيانات وجدت لتتفكك بعد حين، لا لتبقى . إنه افتراض ينطوي على وجاهة، إذا ما عاينا هذا الهجين الغريب الذي تشكلت منه هذه الكيانات . وفاقم من ذلك أن من حكموها لم يتوافروا على برامج واضحة لبناء دول حديثة تمتلك أسباب القوة والمنعة، وتحقق لشعوبها ما هي في حاجة إليه من عيشٍ كريم وحياة حرة، فلا هي أمنت لقمة العيش ولا فضاء الديمقراطية، ما قذف بهذه المجتمعات إلى أتون الانفجار الذي ظل مؤجلاً حتى حانت لحظته .
وكما في حال “اصطناع” كيانات كثيرة في المنطقة، حين كان لفعل فاعل خارجي أكبر الأثر فيه، فإن تفكيك هذه الكيانات إلى وحدات أصغر، لا يبدو أنه يجري بعيداً من تأثير فعل فاعل خارجي مشابه، مع فارق أن مركز القرار انتقل من لندن وباريس، إلى ما وراء المحيط، في واشنطن .