منذ نحو عقدين عقدت في القاهرة ندوة بعنوان: “وداعاً للطبقة الوسطى”، كانت تبحث تحديداً في تراجع مكانة الفئات الوسطى في الحياة الاجتماعية والسياسية العربية، على ضوء سياسات التهميش والإفقار التي شهدتها مجتمعاتنا، وأدت إلى استقطاب حاد وعميق بين فقر مدقع يشمل الأغلبية الساحقة من الفئات الاجتماعية، وبين ثراء فاحش ينحصر في فئة محدودة غارقة في المزايا التي تنهبها عادة من المال العام، وهو الأمر الذي ضيق القاعدة الاجتماعية للسلطات الحاكمة في البلدان العربية، وقاد إلى الانفجارات الحادة التي شهدناها .
بعض الباحثين يتحدث عما يصفونه بانشطارات الطبقة الوسطى في بلداننا العربية، في إشارة إلى أن هذه الطبقة ليست كتلة واحدة، وإنما هي فئات متنوعة، ويمكن أن نستطرد هنا فنقول إن المنابت الاجتماعية لهذه الفئات متنوعة ومتعددة، وهو الأمر الذي ينعكس على مزاجها السياسي والفكري الذي يبدو هو الآخر متنوعاً ومتعدداً . لكن لا يمكن إلا الوقوف بجدية أمام الآراء التي يلحظ أصحابها أن استمرار ارتفاع الأسعار والتضخم المتزايد وثبات الأجور عند حالها يؤدي موضوعياً إلى تآكل الفئات الوسطى، وتعرض أجزاء منها للإفقار، وهو أمر يمكن أن يزداد في الفترة المقبلة أيضاً . وطبيعي أنه يترتب على ذلك مفاعيل اجتماعية واقتصادية عدة، خاصة إذا ما تذكرنا القاعدة القائلة، إن الفئات الوسطى بالذات هي الحافظة للتوازنات الاجتماعية، وكلما اتسعت قاعدتها وازدادت رسوخاً وثباتاً، أمكن تأمين درجة من الاستقرار وسلاسة التطور الاجتماعي والسياسي .
ومؤخراً وقعت عيني على حوار أجرته مجلة “الثقافة الجديدة” الصادرة في بغداد مع الأكاديمي العراقي عامر حسن فياض كُرس للحديث عن “تواري الطبقة الوسطى وتعثر التحول الديمقراطي في العراق الجديد”، وليس توارد خواطر أن الأمر هنا يدور تحديداً عن تواري هذه الفئات، فرغم أن الحوار يدور عن الحالة العراقية حصراً، إلا أنه يمكن الاستفادة من معطياته واستنتاجاته من أجل فهم أفضل لواقع الفئات الوسطى في البلدان العربية الأخرى، على الأقل منها تلك القريبة في خصائص تطورها السياسي والاجتماعي من العراق، حيث يُردّ ضعف الفئات الوسطى فيه وهشاشتها في العقود الماضية، رغم كبر حجمها، أمام جبروت الدولة، إلى كون مصدر ميسورية هذه الفئات وكذلك استنارتها هو الدولة نفسها، فإذا كان لهذه الفئات من قوة ومن دور وطاقة، فإن مرد ذلك هو ما حظيت به من فرص للتعليم ومن رواتب حكومية، لأنها محرومة أصلاً من الملكية الكبيرة، وهذا ما أفقدها دورها المستقلّ، وحين تصدعت أو انهارت الدولة الأمنية إما بفعل الاحتلال الأجنبي وإما بالمتغيرات الداخلية، تصدعت معها هذه الفئات التي لم تعد تملك سوى كفاءاتها المهنية، وهي ما عادت مطلوبة في ظل سياسات الإحلال الوظيفي للنخب الحزبية الجديدة غير المؤهلة غالباً .
“أهلاً ووداعاً للطبقة الوسطى”، يقول فياض، فما كادت فئاتها تتسع، حجماً ووعياً، حتى وجدت نفسها محمولة على مغادرة المشهد الاجتماعي والسياسي، وهذه المغادرة تُسعفنا في تلمس أسباب التعثر في التحول الديمقراطي في البلدان العربية التي قامت فيها هبات وثورات مطالبة بالديمقراطية، وهو تعثر عائد إلى غياب الحاضنة الضرورية لهذا التحول، إن على صعيد الوزن الاجتماعي المؤثر، أو على صعيد العقول المفكرة المنتجة للثقافة الديمقراطية .