رغم
العداء التاريخي بين الهند والصين، حيث خاض البلدان الجاران حرباً تقليدية
في عام 1962 بسبب خلافاتهما الحدودية على امتداد 3225 كيلومتراً من جبال
الهملايا، ورغم أن الهند تغبط الصين على ما حققته من انجازات اقتصادية،
ولكنها تعزي نفسها بالمقابل بديمقراطيتها العريقة التي تفتقر إليها الصين
(مع أن ديمقراطية الهند “تنتج” فساداً مالياً وإدارياً أكبر حجماً مما
ينتجه نظام الحزب الواحد في الصين)، نقول رغم ذلك إلا أن البلدين العملاقين
الصاعدين اقتصادياً قد وجدا نفسيهما وجها لوجه أمام موضوعية وقوة حركة
عوامل الإنتاج عبر حدود بلديهما . وباستثناء حركة رأس المال البينية
الضعيفة نسبياً، ورغم عدم وجود رحلات طيران مباشرة حتى الآن بين كبرى المدن
الصينية بكين وشانغهاي وبين المرفأ المالي والتجاري للهند “مومباي”، إلا
أن التجارة البينية للبلدين شهدت طفرة نوعية بعد الانفتاح الاقتصادي الهندي
في عام 1991 حين كان الغرب مازال يهيمن على الاقتصاد العالمي، حيث أصبحت
الصين اليوم ثالث أكبر شريك للهند في التجارة السلعية والأول إذا ما أضفنا
هونغ كونغ)، حيث عادت هذه التجارة بالفائدة على الهند وإن كان الميزان
التجاري للبلدين يميل لغير مصلحتها (مقابل كل دولار واحد من الصادرات
الهندية للصين هناك ثلاثة دولارات من الصادرات الصينية للهند، ما أنتج
عجزاً تجارياً هندياً بلغ 40 مليار دولار حتى نهاية السنة المالية في
مارس/آذار 2012) . فمعظم واردات الهند من الصين هي سلع رأسمالية مثل معدات
وتجهيزات محطات الطاقة وشبكات الاتصالات التي تدفع الهند ثمنها في الأغلب
بقروض صينية منافسة (ميسرة لجهة سعر الفائدة) .
وإذا
كان الصينيون قد نجحوا في احتلال مناطق في الهملايا في حرب 1962 قبل أن
ينسحبوا منها ضمن اتفاق وقف اطلاق النار، فإنهم في السلم أيضاً نجحوا في
النفاذ إلى ألأسواق الهندية بحصد الشركات الصينية عقود البناء والهندسة في
عدد من قطاعات الإنتاج المفتاحية الصينية ومنها قطاع الطاقة على حساب
الشركات الهندية . وغنيٌ عن القول إن تحدي المنافسة الاقتصادية أقوى وأعقد
من تحدي معارك الميدان، فليس لدى الهند الكثير الذي يمكن أن تصدّره إلى
الصين، وهو الأمر الذي كان أدركه المستعمرون البريطانيون للهند فحاولوا سد
فجوته بإجبار الصينيين على استيراد محصول زراعة الأفيون الهندي (شنت
بريطانيا حرب الأفيون الأولى ضد الصين لمدة عامين من 1840 إلى 1842 لاجبار
الصين على فتح أسواقها أمام الأفيون الذي كانت تزرعه شركة الهند الشرقية
البريطانية في الهند وغنمت من تلك الحرب جزر هونغ كونغ، وشنت حرب الأفيون
الثانية، ومعها فرنسا هذه المرة، ضد الصين خلال الفترة من 1856 إلى 1860)،
حيث ترتكز صادرات الهند للصين على المواد الخام لا سيما المعادن وخصوصا
كريات الحديد الخام وكذلك القطن . إلا أن حملة الحكومة الهندية على مصادر
الفساد في العام الماضي والتي شملت مكافحة أنشطة التعدين غير الشرعية قد
أدت إلى تقليص صادرات الهند من خام الحديد إلى الصين عبر مقاطعة “جوا” على
الساحل الغربي للهند بنحو 20% . كما أدت مخاوف الحكومة الهندية من حدوث نقص
في امدادات القطن للسوق المحلي إلى قيامها بحظر تصدير القطن في شهر
مارس/آذار الماضي .
وفي
حين يشكو الهنود مما يسمونه سياسة إغراق صينية انعكست سلبياً خصوصاً على
صناعة معدات الطاقة الهندية وأجبرت الهند على اللجوء للسياسة الحمائية،
تشكو الشركات الصينية من عوائق استخراج تأشيرات الدخول للهند . وتطمح الهند
الى تعظيم صادراتها للصين، وقد أبرم البلدان خلال قمة مجموعة العشرين
الأخيرة صفقة ضخمة لتصدير مزيد من الأرز الهندي الى الصين . كما تتطلع
الهند لتمكين صناعاتها ومنها الصناعات الدوائية وصناعة السيارات وتكنولوجيا
المعلومات من النفاذ إلى السوق الصينية، التي نجح بعضها في خلق موطئ قدم
لها في السوق الصينية حتى وإن كان للفوز بعقود المشتريات الحكومية، وقد
سمحت الهند بالمقابل لبنك صيني واحد لفتح فرع له في الهند .
وفي
ما يتعلق بالاستثمار المباشر فإن الاستثمارات الصينية المباشرة نجحت في
“الإقامة” في بعض ولايات المهراجا الهندي مثل ولاية غوجارات وولاية
مهاراشتا، حيث أنشأت فرص عمل وتوظيف للهنود المحليين، كما أقامت مركز أبحاث
وتطوير في بنغلور .
وعلى
ذلك فإن حاجة الهند للاستثمار الأجنبي المباشر الموجه للصناعات والبنية
الأساسية، وبالمقابل توفر فوائض مالية لدى الصين تبحث عن أقنية توظيف جديدة
خارج اطار الأوراق المالية والأصول الامريكية، فهذا يعني أن الوقت قد حان
للبلدين لتدشين مرحلة الاستثمار المباشر في ما بينهما، وليس أفضل للانتقال
لمرحلة جديدة متقدمة من التعاون الاقتصادي بين هذين العملاقين الاقتصاديين
الآسيويين، من إبرام اتفاقية تجارة حرة بينهما تتناول كل معوقات المبادلات
الاقتصادية من تأشيرات الدخول إلى الإجراءات الحمائية الكمية وغير الكمية .
ولن يطول بنا الوقت قبل أن نرى البلدين وهما يتوصلان إلى هذه الاتفاقية،
التي إن حدثت فإنها سوف تغير شكل الخريطة الاقتصادية الآسيوية وميزان القوى
الاقتصادية العالمي بالضرورة .