هي المرة الأولى التي يثار فيها هذا السؤال: إلى أي مستقبل نحن ذاهبون؟
ولن تكون الأخيرة، ومع ذلك فان الأجوبة المقدمة لا تشفي الغليل، ربما لأننا
اعتدنا تحاشي البحث في المستقبل، لو قارنا الأمر بمقدار الحديث عن الحاضر
وعن الماضي . نتحدث عن الحاضر لنهجوه، ربما لأنه لا يستحق سوى الهجاء، أو
دعونا نقول إن ما فيه من عناصر إخفاق وبواعث إحباط تحمل على الهجاء أكثر
مما تحمل على شيء آخر سواه، ونتحدث عن الماضي لأننا غالباً ما نجد فيه
العزاء، رغم أن المرء لو توقف ملياً لوجد أن الماضي الجدير بالثناء يبدو
بعيداً جداً، موغلاً في القدم، وأن ماضينا القريب حين يدور الحديث لا عن
العقود الأخيرة، وإنما أيضاً عن القرون القليلة الماضية باعث، هو الآخر،
كما الحاضر على خيبة الأمل . لا فكاك، إذاً، من بحث المستقبل بصرف النظر أي
مستقبل نعني: مستقبل السنوات القليلة القادمة، أو مستقبلنا بعد عقد أو
عقدين أو أكثر، أو مستقبلنا بعد نصف قرن مثلاً أو قرن بكامله، لأن
المستقبل، حتى ذاك الذي يبدو بعيداً اليوم، سيغدو في ومضة عين حقيقةً علينا
أن نعيشها بكل دقائقها، خاصة أن العالم الآن مشغول بما يدعى المستقبليات،
وهو علم يرمي لاستشراف المستقبل وترجيح السيناريوهات الممكنة لتطوره في ظل
واقع يندفع فيه هذا العالم بأقصى سرعة عرفها التطور البشري نحو آفاق
واكتشافات وسياسات سرعان ما تتقادم لتحل بدائلها الجديدة في حياة لم تعد
تعرف السكون والبطء وحتى البلادة التي ميزت تاريخ الإنسان في العصور
السحيقة يوم كانت الحضارات تعمر طويلاً، أما اليوم فان صورة العالم تكاد
تتبدل كل ربع أو نصف قرن تبدلاً كلياً، إما بحكم الحروب، وما تفرزه من
وقائع على الأرض، وإما بحكم ثورات العلم والتكنولوجيا والاتصال .
وإذا
كان البحث الاجتماعي والسياسي العربي يشكو من علل كثيرة، فان كبرى هذه
العلل هي هذا الاستخفاف بالمستقبل وعدم تهيئة العدة لاستقباله، لذا كثرت
المرات التي وجدنا أنفسنا فيها أمام كوارث، ربما كان بالإمكان تفاديها، لو
أن صناع القرار اهتموا ببحث احتمالات التطور المختلفة . يمر العالم العربي
اليوم بمنعطف حاسم في مجرى تطوره، ليس العرب وحدهم هم من يُقرر وجهته
وسيرورته، والصورة التي سيرسو عليها بعد حين يطول أو يقصر، فقوى كبرى،
دولية وإقليمية لها مصالح واستراتيجيات باتت طرفاً فاعلاً في ما يدور وما
سيدور، فهناك رؤية أمريكية وضعت بعناية تأخذ في الحسبان حجم مصالح واشنطن
في هذه البقعة الحيوية من العالم، وهناك رؤية أوروبية تتقاطع في نقاط
وتفترق مع أخرى مع رؤية أمريكا، وهناك طموحات إقليمية معلنة لدى تركيا ولدى
إيران، وقبل هذا وبعده هناك مشروع الهيمنة الصهيوني بعيد المدى . إنه
منعطف جدير بأن يبحث وتُدرس آفاقه وما سيجره من نتائج مستقبلية، أمام
احتمالات وسيناريوهات شتى لا يقل أي منها خطراً عن الآخر، إن تركت الأمور
تسير وفق ما يريدها لها الآخرون، الذين لا يعنيهم أبداً أن يكون العالم
العربي أفضل وأقوى مما هو عليه، هذا إن لم يكن الكثيرون منهم يريدونه وقد
ازداد تفككاً وضعفاً وتخلفاً وجهلاً .