قد أتموا للتو يوم صيامهم السابع عشر من شهر رمضان المبارك المصادف للخامس
من أغسطس/آب، واجتمعوا وتحلّقوا حول مائدة إفطارهم هناك في شمال سيناء على
الحدود الشرقية لمصر المتاخمة ل”إسرائيل”، مجموعة صغيرة من ضباط وجنود مصر
العزيزة، وإذا بهم أمام حفنة من القتلة المهووسين يباغتونهم غيلةً ويفتحون
عليهم النار ويردون منهم 16 قتيلاً ويصيبون منهم سبعة آخرين، قبل أن
يستولوا على مدرعتين خفيفتين متوقفتين أمام مركز الشرطة الحدودي الذي كان
مسرحاً للجريمة، ويحاولوا التسلل بهما إلى داخل قطاع غزة لتنفيذ عملية
“بطولية” (!!) ضد “إسرائيل”، وهي البطولة التي لم تظهر سوى على الجنود
المصريين الهاجعين، عُزّلا، لتناول وجبة إفطارهم . وفي تونس راحت الجماعات
الأصولية تستعرض عضلاتها على المجتمع والدولة التونسية معاً . ولم تكتف
بتنظيم أعمال الشغب في شوارع المدن والبلدات والأرياف التونسية، بل ذهبت
إلى أبعد من ذلك، حيث شنت العديد من الهجمات المسلحة على بعض مؤسسات الدولة
ومرافقها واشتبكت مع قوات الأمن التونسية بالأسلحة النارية في تصعيد خطير
يعيد إلى الأذهان الطريق الذي سلكته الجماعات السلفية المسلحة في الجزائر
حين لجأت إلى العمليات الارهابية سبيلاً للقفز إلى السلطة .
وفي
ليبيا، التي خرج منها مئات من كوادر ومقاتلي “القاعدة”، استغلت المجموعات
السلفية أجواء الانتفاضة الشعبية ضد نظام أسرة القذافي وانسلّت إلى صفوف
المنتفضين معلنةً بصورة سافرة عن تواجدها في الميدان العسكري والمشهد
السياسي الليبي الجديد . بل إنها استغلت هذا الجو بما في ذلك فوضى انتشار
السلاح، لتوسيع رقعة عملياتها في تهريب السلاح و”الجهاديين” جنوباً نحو
النيجر وتشاد ومالي التي احتلت المجاميع الارهابية المسلحة المتبنية لفكر
“القاعدة” مساحات شاسعة من أراضيها، ما يعني عملياً أن مالي أضحت في عداد
البلدان الساقطة ضحايا الارهاب الاصولي الأرعن الذي لم يوفر حتى أماكن
العبادة المسجلة لدى اليونسكو ضمن قائمة التراث العالمي، وكذلك نيجيريا
التي يستبيح فيها الإرهاب الأسود لمنظمة ما تسمى “بوكو حرام” تحت راية
الفكر القاعدي التكفيري، أبناء البلاد المسيحيين وكنائسهم وممتلكاتهم .
أما
اليمن الذي دخل منذ البداية على خط حركة الاحتجاجات الشبابية الواسعة
الموجهة نحو التخلص من بُنى الاستبداد والفساد القديمة والبحث عن مستقبل
آخر جديد لليمن خارج ذلكم “الصندوق البالي” الذي وضعهم فيه ذلكم النظام
العسكري/القبلي المتوارث منذ عهد الامامة . .فقد وجد تنظيم “القاعدة” في
الحراك الشعبي اليمني أرضاً خصبة مواتية للخروج العلني والانقضاض على
المناطق الهشة وابتلاعها ونشر رائحة الموت والدم فيها لترويع وإخضاع سكانها
على النحو الذي حدث لمحافظة أبين في جنوب اليمن، التي كشفت الصور التي
نقلتها أجهزة الاعلام مطلع شهر يوليو/تموز الماضي بعد تمكن قوات الجيش
اليمني بمساعدة الأهالي وقوات الدفاع الشعبي من طرد مسلحي القاعدة فيها، عن
الحجم المهول للدمار الذي خلفته القاعدة هناك، حيث بدت أبين من خلال الصور
المرعبة وكأن إعصاراً مدمراً قد ضربها، لدرجة أن تصنيفها بالمنطقة
المنكوبة لا يبدو كافياً للتعبير بما يكفي عن الحال الكارثية التي تكلفها
احتلال القاعدة لها . وفي العراق فإن الجماعات الارهابية المسلحة لا يكاد
يهنأ لها بال من دون أن تترك يومياً تقريباً بصمات أفعالها الاجرامية
قتلاً، وأشلاءً متناثرةً، ودماً مسفوحاً، ورائحة موت منبعثة من تحت أنقاض
الأماكن التي يرتادها الناس الأبرياء . وبقليل من التفحص والتبصر سوف يجد
المراقب النبيه أن الوضع الجنيني لانتقال المجاميع السلفية التي قطعت شوطاً
في تسييس رؤيتها الكونية الساذجة، من ميدان التنظير التكفيري والإلغائي
إلى الشروع في إنشاء التشكيلات القتالية لتنفيذ تلك الرؤية، نقول إن ذلك
الوضع الجنيني هو اليوم يكاد يكون شبه مكتمل حتى في البلدان العربية التي
لم تزل، حتى الآن، بمنأى عن الموجة الجديدة من الارهاب الأصولي الجارف،
متشجعةً في ذلك “بالهزات الارتدادية” التي أشاعها “زلزال” الربيع العربي
مطلع العام الفائت، والتي وضعت الجميع، في حيرة من أمرهم بشأن مآلاتها غير
المعروفة وغير المستقرة بعد .
وهكذا،
كأنما المنطقة العربية أصابها إعصار سلفي “جهادي” راح يجتاحها طولاً
وعرضاً تزامناً مع “هبات” الربيع العربي منذ إطلالته الأولى مطلع عام 2011
الماضي . وهو إعصار لا يختلف عن تلك الأعاصير الطبيعية كاعصار كاترينا
المدمر الذي ضرب مدينة نيو أورليانز الامريكية في 29 أغسطس/آب 2005 . وكما
أن للأعاصير الطبيعية أسبابها الجيوفيزيائية فإن للأعاصير “البشرية” التي
نحن بصددها أسبابها هي الأخرى، ومنها وأبرزها ربما نهوضها كرد فعل وقائي
على ما بدا أنه “إعصار ربيع عربي” غير محمود العواقب (على سبيل المثال تم
في اليمن إخراج “المارد” من قمقمه، وفي السودان تم التلويح به علناً ووو . .
.، مع أن التجربة أثبتت الخطورة الارتدادية لمثل هذه الاستعانات)، خصوصاً
بعد أن اتضحت القوة الاجتياحية “الدومينوية” ل “الربيع العربي” في غير ساحة
عربية، وحجم “التداعيات” التي يمكن أن يحدثها في الجدران التي طالما نظر
إليها الناظر بمهابة متانتها الشاخصة ككتلة سرمدية . الأدهى من ذلك أن ذلك
الاعصار السلفي يطلقونه باسم الدين الحنيف ومن دون أن يلقى ردود أفعال
تضاهيه وزناً وزجراً .