في غمرة النقاش الدائر عربياً اليوم حول قضايا التحول الديمقراطي، فكراً وممارسة، يجدر أن يسلط الكثير من الضوء على الفكرة الليبرالية بوضعها قاطرة سياسية نحو الديمقراطية، والحاجة الى تسليط هذا الضوء، نابعة من أن الفكرة الليبرالية غيّبت طوال عقود من الحياة السياسية العربية لمصلحة فكرة الحزب الواحد، أو الجبهة الوطنية التي هي عبارة عن أطراف مهمشة حول قطب الحزب الواحد . وهناك من يرى أن الأمور عربياً كانت ستسير في مجرى آخر لو قيض للأحوال أن تأخذ مجرى الليبرالية السياسية القائمة على التعددية الحزبية وعلى تداول السلطة سلمياً، على نحو ما هو قائم ليس فقط في الغرب، وإنما في بعض البلدان النامية أيضاً، كالهند مثلاً التي استطاعت رغم تعداد سكانها الهائل ومساحتها الجغرافية الكبيرة وتعددها الثقافي والإثني واللغوي أن تحافظ على حياة سياسية مستقرة إجمالاً بفضل الديمقراطية .
ليست الفكرة الليبرالية جديدة على العالم العربي، فدارسو التاريخ والباحثون يتحدثون عما يصفه الدكتور غسان سلامة ب “البرهة الليبرالية”، في اشارة إلى ذلك المقطع الزمني القصير بعد الحرب العالمية الثانية الذي شهد في البلدان العربية المفصلية، مصر وسوريا خاصةً، مظاهر من التعددية الحزبية وبدايات تكون برجوازية وطنية مستقلة إلى حدود معينة أسهمت في خلق مناخ اجتماعي متميز ظهرت بعض معالمه في الحياة الثقافية والفكرية والفنية التي نجد تجلياتها في الأفلام العربية القديمة التي تعكس حياة عاصمة عربية مهمة كالقاهرة أو مدينة كالإسكندرية، كانت هذه المدن نظيفة وهادئة وأنيقة المباني قبل أن تشهد هذا الانفجار السكاني المهول الذي لعبت فيه الهجرة الواسعة من الريف والأقاليم البعيدة دوراً كبيراً، وقبل أن ينتشر تلوث البيئة وتتعرض المدن للاختناقات المعيشية الكبرى في السكن وفي المواصلات وفي فرص العمل وسواها .
معلوم ان الفكرة الليبرالية قد قمعت بشدة، ليس بواسطة القمع في معناه المباشر من حيث هو سجون أو محاكم أو منافٍ فحسب، وإنما عن طريق احتواء المجتمع المدني ومصادرته، واستغل العدوان الصهيوني المستمر على البلدان والشعوب العربية ذريعة لتأجيل النظر في المسألة الديمقراطية، أو النظر اليها بوصفها مسألة ثانوية أو ليست ذات أولوية، وأدى هذا المناخ لنشوء ما يمكن وصفه بالاتحاد بين الفساد المالي والإداري وبين سطوة الأجهزة الأمنية، ففي مناخ كهذا نشأت بيروقراطية فاسدة ضاربة تسلقت عبر أجهزة الدولة والتنظيمات الحاكمة لتستفيد من غياب الرقابة الشعبية والبرلمانية في تكوين ثروات طائلة ومصالح غير مشروعة، من مصلحتها إحباط أية محاولة للإصلاحات السياسية .
وفيما العالم كله توجه نحو الدمقرطة في العقود القليلة الماضية، حيث طالت موجة الديمقراطية مواقع عصية عليها كالكثير من بلدان أمريكا اللاتينية التي عُرفت بحكم الديكتاتوريات العسكرية، وانحسرت رقعة الاستبداد السياسي السافر عن مواقع كثيرة في الكوكب، فإن هذه الموجة ظلت خافتة المد في عالمنا العربي، إلى أن أفقنا جميعاً على الزلزال العربي الأخير الذي أطلقت تونس إشارته الأولى، ويظل من المبكر الجزم بأن العرب ولجوا عصر الممارسة الديمقراطية، فدونهم وذاك تشييد قواعدها الراسخة التي تضمن ليس تطورها فحسب، وإنما مخاطر الارتداد عنها، وهي ليست قليلة، خاصة أنها تأتي على حوامل سياسية وحزبية غير ديمقراطية المنشأ .