أصبحت شوارع العواصم العربية حاضنة لاحتجاجات شبه يومية من قبل الشباب
العربي الذي يريد أن يرى نظاماً يعي ويلبي مطالبه الحقوقية المسلوبة وغير
المفعلة سواءً كانت مدنية أو سياسية. ولن يكون مشروع الحرية والعدالة مرحلة
زمنية عابرة في التاريخ العربي الحديث الذي ظل على مدى أربعين عاماً يتكلم
إما تمجيداً لركائز دولة الفساد أو قامعاً لكل معارض أو منتقداً للحرية
والعدالة المسلوبة عبر أساليب بوليسية تنتهك حقوق الانسان أو فرض محاكمات
صورية ضد كل من يرفع صوته عالياً ضد النظام.
الشباب العربي في مطالبه
الحالية في الشارع لم تختلف كثيراً عما طالب به شباب دول أميركا
اللاتينية، فالشعب التشيلي مثلاً ذاق مرارة طويلة من الاستبداد ومن سلب
الحريات العامة بشتى أنواعها في عهد حاكمها الديكتاتوري أوغستو بينوشيه
الذي توفي العام 2006.
فقد حكم بينوشيه الذي عرف باعتزازه بنفسه
وبسياساته العقيمة على مدى 27 عاماً، حكماً عسكرياً ظالماً، وقد وُصف بمخلب
القط الأميركي في المنطقة، بل كان العدو الأول لكل مفكر وكاتب وناشط بدول
أميركا اللاتينية التي كان معظمها يقبع تحت وطأة أنظمة قمعية ظالمة تمادت
في انتهاكات حقوق الإنسان والحريات، حتى وصلت إلى نهايات مأساوية تغيرت مع
تغير المعادلات السياسية الداخلية والاقليمية التي انطلقت مع أواخر حقبة
السبعينيات والثمانينيات، وصولاً الى أوائل التسعينيات.
بينوشيه لم
ينته في سجن أميركي مداناً بالإتجار بالمخدرات، ولا انتهى مقتولاً على يد
شعبه كما انتهى غيره من قادة دول أميركا اللاتينية، رغم أنه تعرض لمحاولات
اغتيال، بل انتهى مخلوعاً على يد شعبه رغم قوة نظامه العسكري، وما مارسه من
خنق للحريات كواحد من أسوأ أنظمة العالم الديكتاتورية.
وما حدث في
أميركا اللاتينية عندما سقطت الأنظمة الواحدة تلو الاخرى، هو سيناريو يعاد
مرةً أخرى، لكن هذه المرة في المنطقة العربية التي كانت تصنّف سابقاً –
بحسب المراقبين – بأنها منطقةٌ محصنةٌ عن الديمقراطية ومؤسساتها! فمنذ أن
سقط النظام في تونس ومصر وليبيا العام 2011 ومازال المشهد العربي يشهد
تقلبات سياسية واجتماعية واقتصادية جذرية لأنه امتداد لحراك مجتمعي يسعى
إلى التغيير.
وبقراءة سريعة لتطورات المنطقة، فإن مقاومة التغيير لن
تبقى طويلاً، لأن الشارع العربي ما عاد يحتمل ما كان مفروضاً عليه منذ
الاستقلال قبل أربعين أو خمسين عاماً، خصوصاً أن الشباب اليوم أصبح أكثر
انفتاحاً وإدراكاً بسبب تدفق المعلومة عبر وسائط الإعلام الجديد المتوفرة
حالياً عبر أدوات سهل تناولها وسهل تداول المعلومة من خلالها.
ولو
ربطنا ما يحدث في شوارع وميادين العواصم العربية المفتوحة والمغلقة، وماذا
يريد الشباب العربي في بلدانه، فيمكن استذكار بعض المعلومات التاريخية
المتعلقة بتاريخ المنطقة وإعادة تشكيلها قبل مائة عام، وهو ما يوضح ما يحدث
اليوم من تغييرات. فلقد تشكلت خريطة المنطقة السياسية على أساس المحاصصة
بين بريطانيا وفرنسا كقوى استعمارية مباشرة آنذاك، طبقاً لمصالحها الخاصة.
وعلى ذلك نفذت اتفاقية سايكس- بيكو، ولاحقاً وعد بلفور، ولم تحصل شعوب
المنطقة سوى على شعارات فارغة ورنانة عن القومية والوحدة.
وها نحن
الآن وبعد مائة عام من تلك الحقبة الاستعمارية، تهتز المنطقة وتدخل في
مرحلة جديدة بكل تحولاتها التوعوية الهائلة من ثورات واحتجاجات شعبية تعم
الوطن العربي، كانت بدايتها تونس وامتدت شرارتها من الخليج إلى المحيط.
السؤال
المطروح الآن: هل سيستمر هذا المخاض الكبير دون أن تتحقق تطلعات الشباب
العربي وأمانيه في الديمقراطية والتنمية وتهبط إلى مستويات سفلية تنقسم
فيها المنطقة على أساس عرقي وطائفي وقبلي، كما يسعى إليها البعض لحرف
المسار عن الخط والتطلع الحضاري للشباب ولباقي شرائح المجتمعات العربية
وجعلها تخسر كما خسرت قبل مائة عام.
المراقبون يرون أن هذا غير ممكن
أن يحدث، وذلك لتنامي درجة الوعي السياسي، ولارتباط هذه الحركة بحركة
عالمية تدعو لحقوق الإنسان والديمقراطية. وهذا يعني أن المطابخ السرية التي
كانت تسمم الأمور وتحيك المكائد في الماضي، ليست لديها القدرة ذاتها لأن
عليها أولاً أن تستغبي الناس وكأنهم يعيشون في الظلام، وهو واقع ليس كذلك.
مهما
طال الزمن فإن أمنيات القوى الرجعية والديكتاتورية الرافضة للتغيير في دول
ومجتمعات المنطقة العربية لن تتحقق هذه المرة، لأن الجماهير ستستمر زاحفة
وثائرة حتى تتحقق أهداف الناس في الحرية والديمقراطية على امتداد المنطقة
العربية من مشرقها إلى مغربها.
ريم خليفة
صحيفة الوسط البحرينية