تشهد بلدان الأضلع الأساسية للنظام الرأسمالي العالمي التي تدين بمذهب اقتصادي موحد هو الأيديولوجيا الاقتصادية التحررية، نوعاً من الانقسام على خلفية الأزمة المالية/الاقتصادية التي ضربت قلاع النظام (الولايات المتحدة وأوروبا) في الثلث الأخير من عام ،2008 وتداعياتها المتواصلة لاسيما منها الأزمة المالية التي تكاد تكون مستعصية والتي تمسك بخناق بلدان الاتحاد الأوروبي، لاسيما منها البلدان الأعضاء في منطقة اليورو . انقسام بين بلدان تؤيد سياسات التقشف الإنفاقي وتتزعم ألمانيا هذا الاتجاه، ومجموعة بلدان أكثر عدداً تؤيد بقوة سياسة إمداد الاقتصادات الوطنية بمزيد من حزم (حقن التنشيط) المالي سبيلاً للتغلب على الضائقة المالية .
الجيد أن الفريقين، بحكم مرجعية نظامهما المؤسسي الديمقراطي الراسخ لديهما من المرونة الكافية (التي يبديانها على أية حال في اجتماعاتهما الماراثونية) التي تمكنهما من الوصول إلى نقاط التقاء وسطي بين التقشف وبين إجراءات التحفيز المالي، مع أن التوفيق بين الضدين ليس سهلاً بالنسبة للاقتصاديين المشتغلين على هذين الخيارين . وصعوبة التوفيق بين الخيارين تكمن في أن الدول المنحازة لخيار التحفيز المالي، وهي غالبية الدول المأزومة مالياً، لديها فعلاً مشكلة تتصل بالمصداقية، ذلك لأنها تنطلق من منطلقات لها خلفية أيديولوجية تتصل ببرامج أحزابها الانتخابية ووعودها لجمهورها من الطبقات الفقيرة والمتوسطة بأن تجيء حلول المشكلات الاقتصادية في اتجاه تخفيف أعبائهم المعيشية، كما هو حال الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند الذي استفاد حزبه الاشتراكي من السخط الشعبي الفرنسي على السياسات النيوليبرالية للرئيس السابق وحزبه اليميني حزب الاتحاد من أجل حركة شعبية وطرح نفسه وبرنامجه بديلاً مغايراً لهذه السياسات . فكان لابد وأن تأتي سياسات هولاند الاقتصادية والمالية متوافقة أكثر مع مصالح الشرائح الاجتماعية التي انتخبته أكثر من توافقها المفترض مع المقاربة الحصيفة والمطلوبة للتعامل مع أزمة المديونيات والعجوزات .
في الجانب الآخر نرى أن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، ومن دون التقليل من حقيقة انتمائها إلى الاتجاهات اليمينية المحافظة في الاقتصاد، إلا أنها تمثل الاتجاه السياسي الاقتصادي الذي يحاول أن يعبر عن ثقافة اقتصادية واستهلاكية وأخلاقيات عمل، تعكس فلسفة الألمان في بناء الأوطان والمجتمعات عبر العصور .
وهم أي الألمان من وجهة نظرنا، لهذا السبب بالذات يستنكفون عن إعطاء موافقتهم المجانية والاعتباطية، باسم التضامن الأوروبي، لتقديم يد العون والإسعاف المالي لبلدان مثل اليونان على سبيل المثال التي صار الألمان يعبرون بشكل صريح وواضح عن رأيهم في سلوك اليونانيين كمبذرين وكسولين يتعين عليهم إعادة النظر في هذه الثقافة السلوكية السيئة قبل أن يحظوا بالدعم الذي يطلبون .
هنا بالذات يكمن جوهر القضية، بعيداً عن المبارزات الإعلامية الدعائية والأيديولوجية الضيقة . وهنا بالذات علينا نحن في مجلس التعاون لدول الخليج العربية تحديداً أن نسارع الآن لالتقاط هذا الخيط الرفيع الذي يغلف مماحكات الأوروبيين حول عقم مساوماتهم المضجرة والعقيمة بشأن كيفية خروجهم من العنق الضيق جداً للزجاجة التي حشروا أنفسهم مالياً فيها .
لا أن نفاضل فقط كما يفعل الأوروبيون الآن تحت وطء أزمة مديونياتهم وعجوزاتهم بين أيهما أجدى وأسلم على المدى المتوسط والبعيد، الاستمرار في سياسة التوسع المالي الإنفاقي أو البدء، الآن، بتنفيذ خطط عمل لضبط وترشيد الإنفاق ما دامت الأوضاع المالية تسمح لنا بذلك الآن، وإنما التقدم خطوة أخرى إلى الأمام باتجاه إعادة دراسة جدوى وتقييم نموذج التنمية الانفجاري المعتمد على عمالة كثيفة ورخيصة نضطر لجلبها من الخارج وجعلها مكوناً أصيلاً في نموذجنا التنموي بكل ما تنطوي عليه هذه العملية من أحمال ثقيلة على قدرة الطاقات الاستيعابية لأسواقنا ولاقتصاداتنا الخليجية، شاملة لكافة مواردها ومرافقها وكامل بنيتها الأساسية .
وعلينا أن نتذكر دائماً ونأخذ بعين اعتبارنا اننا لسنا معزولين عن بقية الحراك الاقتصادي العالمي، فاقتصاداتنا منتعشة فقط لأن القدرة الاستيعابية للطلب الكلي من جانب الأسواق العالمية ومراكزها الاقتصادية الرئيسية مازالت في طور تحمل استمرار الطلب فيها بنفس الزخم المؤمن لأسعار النفط التي مازالت تحلق فوق متوسطات الأسعار التقديرية لبرميل النفط المقومة بها الموازنات الخليجية العامة . ولكن هذا الوضع المريح غير مضمون استمراره حتى على المدى القريب، وذلك في ضوء الأوضاع المالية المتردية في بلدان منطقة اليورو، وإمكانية حدوث هبوط شديد للاقتصاد الصيني (أُعلن في 13 يوليو 2012 عن انخفاض معدل نمو الاقتصاد الصيني إلى 6 .7% هو الأخفض منذ ثلاث سنوات)، وعدم ترسخ اتجاه النمو في الاقتصاد الأمريكي، وما سوف يترتب على كل ذلك من تراجع للطلب العالمي على مصادر الطاقة وبضمنها النفط .
ونعتقد أن المعطيات الأخيرة لأداء المراكز الاقتصادية العالمية الرئيسية المشار إليها آنفاً، تعد أسباباً وجيهة لإعادة النظر في سياساتنا المالية التوسعية .
وكما قال بول كروغمان الاقتصادي الأمريكي الحائز نوبل في الاقتصاد، بأن الوقت المناسب لإنفاذ سياسات مالية منضبطة هو وقت صعود الدورة .
حرر في 13 أغسطس 2012