بسياحة سياسية بانورامية سريعة خاطفة، في العالم العربي، وعن بعد أيضاً، يمكن للمرء أن يخرج بحصيلة وفيرة من المعطيات الدالة على أن ما تسمى بالفوضى “الخلاقة” تكاد تختزل المشهد السياسي العربي العام وتشكل عنوانه الرئيس . فهناك حروب أهلية جزئية قابلة للتمدد والانتشار لتصبح أكثر شمولاً، مثال ذلك سوريا، العراق وكذلك الجزائر التي انكفأت فيها الحرب ولكنها لم تزل مندلعة على نطاق أضيق . وحروب قبلية (ليبيا المحررة) . وهناك بؤر متفجرة وأخرى تنتظر توصيلات صواعق التفجير . ويكاد العطب يسم الجو كله بأدخنته المتلبدة في كبد السماوات العربية وروائحها الخانقة كما لو كانت نذر الشؤم التي تحوم عادة بأشباحها وظلال أشباحها حول “ضحاياها” قبل الانقضاض عليها . وكان هدير ونذير فوران البراكين الخادعة بسكونها الهاجع قد بدا مع إطلالة عام 2011 انطلاقاً من تونس المعروفة بالإحكام الحديدي التام لقبضة نظام زين العابدين بن علي البوليسية على مفاصل الدولة التونسية ومناحي حياة الشعب التونسي كافة . ثم ما لبثت حممها (حمم تلك البراكين) أن راحت تقذف شظاياها هنا وهناك حيثما وجدت الأراضي الخصبة لها التي نبتت فيها بذور ومحاصيل الفساد والاستبداد . وما أن بدأ غبار وأدخنة تلك الحمم بالانجلاء قليلاً عن بعض “مراكز هدير” تلك البراكين حتى بدأت تتضح الرؤية، ومعها بدأت تظهر معالم المشهد الجديد “ما بعد الزلازل” لتصدم كل الحالمين بعالم عربي جديد خالٍ من توأمي الفساد والاستبداد . فما اعتقده أولئك الحالمون “ربيعاً عربياً” إذا بهم أمام شيء آخر لا يشبه الربيع في شيء، اللهم إلا في التوقيت المتزامن لقدومهما، بقدر ما يشبه “الخريف” في كل شيء تقريباً على حد وصف أولئك المصدومين .
فحيثما وليت وجهك ستجد أن الإخوان المسلمين، وهو حزب إسلامي راديكالي أنشأه حسن البنا في مدينة الإسماعيلية المصرية عام 1928 وأنشأ له فروعاً في معظم البلدان العربية، هو الحزب الذي صار قابضاً على مقاليد الحكم وعلى مفاتيح ومسارات التطور المستقبلية في عدد من بلدان العالم العربي . ينطبق ذلك على تونس ومصر، وحتى ليبيا (حتى من قبل إجراء انتخابات الجمعية التأسيسية التي ستضع مسودة الدستور الليبي، حيث احتل الإخوان المسلمون المناصب القيادية في أجهزة الدولة ومؤسساتها)، فيما تتم التهيئة لتسلمهم مواقع رئيسة وقيادية في اليمن على خلفية صفقة إعادة تعويم النظام السابق بأقل الأكلاف، بينما عيون إخوان سوريا على مواقع السلطة العليا في هذا البلد الذي تحول الصراع الاجتماعي والسياسي فيه إلى حرب أهلية ضروس .
وحين ينظر المرء ويعاين ويقرأ ويعيد بتمعن قراءة وفحص متواليات تلك “البراكين” فسوف يجد نفسه وقد أحالته ذاكرته، في إحدى مراحل الدرس والتفكر، إلى ما كانت ابتدعته النظرية الفكرية للرئيس الأمريكي السابق جورج بوش من مبدأ أسمته “الفوضى البديعة أو الخلاقة”، وهي نظرية تحاكي بشكل من الأشكال المقولة العربية الشهيرة “اشتدي يا أزمة تنفرجي قد آذن ليلك بالبلج” . هنا سوف يتساءل البعض باستنكار: وهل من الجائز والمعقول ربط ثورات الربيع العربي بالخارج من خلال “تلبيسها” شبهة الاقتران ب “الفوضى الخلاقة” الأمريكية؟
الجواب هو: وما المشكل في ذلك؟ فليست كل العوامل التي حركت المياه الراكدة في المشهد السياسي العربي وحولت ما كان يعتقد إنه رماد هامد إلى جمار متقدة، “محلية الصنع”، فلقد أسهمت عوامل أخرى خارجية كان لها الدور الحاسم في صب الزيت على نار السخط الشعبي المتراكم على مدى العقود الثلاثة أو الأربعة ونيف الماضية، وتطوير القضية من مجرد حدث صغير معزول إلى ثورات شعبية عارمة كان للعامل الخارجي دور واضح في توسيع دائرة المنخرطين فيها .
فكان لابد والحال هذه أن تنقسم النخب الاجتماعية على اختلاف مشاربها بشأن هذا الحصاد غير المتوقع (ربما بسبب مذاقه غير المستساغ) “للربيع العربي”، بين من يرى أن الذي لاشك فيه هو أنه لا الأمريكيين ولا حتى مناصريهم الأوروبيين هم من أشعل فتيل ثورات الربيع العربي، فقد كانت وستبقى من صنع ظروف الاستبداد والفساد المحلية التي أوصلت السخط الشعبي العارم والمكبوت إلى درجة الغليان والانفجار . ولكن هؤلاء وأولئك كانوا السباقين لاستثمار هذه الفرص التغييرية المواتية والسيطرة على مساراتها والتحكم في إيقاعات نسقها صعوداً وهبوطاً من طريق السماح لعوامل وعناصر الفوضى بعمل عملها وتأدية ما هو مطلوب منها من خلط عجيب للأوراق والانتظار ومراقبة ما ستسفر عنه زوبعة تلك “الفوضات” قبل أن تستقر عند مستوى أو حالة معينة، فإن كانت مقبولة جرى التحرك، سواء عبر الأنصار المحليين أو الإقليميين من وراء الكواليس، أو علناً إن تطلب الأمر ذلك، “لحياكة” وإخراج الشكل النهائي للحل والنظام السياسي الاقتصادي الاجتماعي الجديد .
الفكرة تكمن، إذاً، في ترك الفوضى “المندلعة” بجهد “مشترك”، ذاتي وبفعل فاعل، تتفاعل ويضطرم أُوارها ويتفاقم مأزقها وانتظار ما ستسفر عنه عملياتها الداخلية من حوصلة وغربلة مواتيتين قبل التدخل بمعاونة الآخرين المقحمين في الأوقات المناسبة المختارة بعناية دبلوماسية فائقة، لصياغة صيرورتها التوافقية . هي (الفوضى الخلاقة) مقاربة قذرة من حيث محاكاتها لفلسفة الباحث السكاني والاقتصادي الإنجليزي توماس مالتوس (1766 – 1834) الذي قال إن السكان يزيدون على شكل متوالية هندسية (،2 ،4 ،8 . .16 . الخ) بينما يزيد الإنتاج الزراعي على شكل متوالية حسابية (،2 ،4 ،6 8 . . . الخ)، وهي نظرية اتخذ منها المستعمر الأوروبي مبرراً لارتكاب جرائم إبادة بحق كثير من الشعوب . كما تم إجبار أبناء العرقيات المضطهدة، كالسود والهنود الحمر، على إجراء التعقيم القسري . وهي أيضاً، أي (الفوضى الهدامة)، مقاربة ماكرة لأنها تعمل بصمت من دون أن تلفت الانتباه وتثير ردود الأفعال التي تستحقها .