بعد نفض اليد من النواب الذين نظن وليس كل الظن إثم بأنهم في وادٍ والناس في واد اخر، وكأنهم موجودون لزوم الديكور..!! ليس أمامنا غير التمني على الحكومة طالما هي تؤكد في هذه الأيام بالذات بأنها وجلة على وجود المؤسسات والسلطات والقوانين، وأبدت اهتماما ملحوظا بالالتزام بتوجيهات جلالة الملك الاخيرة لاسيما تلك الداعية الى إحداث التغييرات الإيجابية التي يرنو اليها المواطن وتلبي حاجاته وتطلعاته عبر سياسات حكومية مبنية على منهجية علمية تراعي أفضل الممارسات بالمعايير الدولية، واعتبار معيار كفاءة المسؤولين مبنيا على أساس التواصل مع المواطنين والكفاءة في حل مشاكلهم.
من منطلق تلك التوجيهات والتوجهات والمعايير الدولية التي بتنا نتوخاها في المبدأ والموجز والتفاصيل مع الإشارات العديدة التي توالت لتجعل موضوع المعايير وطبيعة هذه المعايير ودورها المفترض والحسابات التي تقوم عليها والالتزامات التي تبنى عليها والنتائج المتوخاة في التطبيق في دائرة الاهتمامات، وهي الإشارات التي نحسب انها بدأت بما اعلن في الآونة الأخيرة من إلزام الوزارات والمؤسسات الرسمية بالأخذ بمعايير ومنهجية التميز، مرورا بتوجيه سمو رئيس الوزراء لكافة الوزراء بالتعاطي الإيجابي مع المواطنين وإيلاء شكاويهم وملاحظاتهم الأهمية اللازمة تفاعلا واستجابة وجعل المواطن دائماً في أولوية العمل الحكومي، وربما انتهاء بالتصريحات الأخيرة لعدد من الوزراء والتي انصبت باتجاه تأكيد حرصهم على تقديم أفضل الخدمات للمواطنين وإعلانهم الاستعانة ببيوت خبرة لتطبيق المعايير التي ينشدونها.
لا نعلم ماذا كان ذلك يجيز لنا ان نتوقع طورا جديدا فى العمل الحكومي، وتحديث الادارة بإنسانها ونصوصها وطرقها وأساليبها ومفاهيمها وآليات عملها وشفافيتها، او اننا موعودون بمرحلة جديدة عنوانها الرئيسي «الاصلاح الاداري»… مرحلة يكون فيها كل وزير وكل من يتولى مسؤولية عامة قادر بحق على قراءة مفردات واستيعاب التزامات ومتطلبات هذا الذي بات فجأة مطلوبا وبإلحاح بدءا من معايير دولية وتميز في الأداء والعمل والإنجاز مرورا برغبة بتفعيل التواصل الحقيقي مع الناس واحترام حقوقهم وكراماتهم، واننا اليوم في مرحلة التركيزعلى مسألة الكفاءة في حل مشاكل الناس والاستجابة الأمينة والسريعة لاحتياجاتهم في كل الميادين لاسيما تلك التي تطبق على القلوب والصدور.
لا نعلم أيضاً ما اذا كان السير في هذا الطريق سيمضي من دون ان تترك مجريات الأمور على هواها، اي من دون الدخول بالأوهام واجترار الكلام الممل او إعاقات المصالح الضالعة او العقليات التي وضعتنا ولإ زالت في أسر التردد والمراوحة، خاصة اذا فهمنا تلك التوجيهات والتوجهات والتعليمات والالتزامات بأنها تعني بان إدارة الشأن العام تتهيئ للخضوع للمعايير طوعا او قسرا، وان الانصياع لهذه المعايير يفترض ان يؤدي الى نقلة نوعية في مسار كل وزارة او مؤسسة رسمية تلتزم بها فعليا، التزام يجنبها سوء الأداء وصعوبة اختراق النظم المرعية، ويفرض عليها الشفافية وتوابعها وكذلك المبادئ الأخلاقية باعتبارها أساسا وانضباطا وهيكلا للمعايير التي يفترض أيضاً ان تؤدي الى تفعيل مبدأ المساءلة والمحاسبة وتحد من الهدر في المال العام ويجعلها قدر الإمكان بمنأى عن الوقوع في براثن البيروقراطية وملحقاتها وكل الممارسات التي تحترف خنق المعايير وتغتالها.
بقي ان يعي المعنيون بالأمر، ان الالتزام بالمعايير الدولية في الأداء والعمل والإنتاج والسعي الى التميز والجودة، لا يعني فقط عددا من المشاريع والبرامج للتأهيل والتطوير الإداري والتواصل مع الناس وإلا لكانت هذه الأمور قد أدت الى نتيجة على مر السنوات المنقضية، بل هو يتضمن قبل ذلك التخلص من البيروقراطية وإفرازاتها. واقتلاع ثقافة سائدة قائمة على البركة والركون الى عناصر تعتبر المسؤولية شرفية، تكتفي بالجلوس فى المكاتب، وان تواصلت مع الناس يكون تواصلا مسرحيا يستثمر في خلق بهرجة إعلامية لا تقدم ولا تؤخر، عناصر تدير الأمور بطريقة الرمونت كونترول، وكأنه لا علاقة لها بما يجري على ارض الواقع، ووجدنا كثر من هذه العناصر لا تؤدي مهامها ولا تقوم بواجباتها الا بناء على ردات فعل، او تعليمات من فوق ويكفي ان نتابع هذه الايام ردود أفعال بعض الوزارات والأجهزة الرسمية على خلفية اكثر من قضية أثيرت في الصحافة مؤخراً.
لعل آخرها قضية المياه المعبأة الملوثة وقضية شحنة الابقار الملوثة وقضية الوفيات المتتالية لمرضى السكلر، وقضية وفاة عشرة عمال آسيويين اختناقا جراء حريق في مسكن غير لائق ووضع غير انساني لا يراعي لا الصحة ولا السلامة المهنية، والشواهد والامثلة لا تزال ماثلة امام الاعين على اكثر من صعيد وكأن الجهات الرسمية المسؤولة لا تتحرك للقيام بمهامها وواجباتها المفترضة الا اذا حدث ما لا يحمد عقباه من حوادث ووفيات وفواجع!! وكل ما يعبر عن واقع مؤسف يمكن تلخيصه في جملة واحدة: مسؤولون لا يقومون بواجبهم واجهزة خدمة عامة لا تقوم بعملها كما ينبغي.
المطلوب بديلا عن هذه الثقافة السائدة، بناء ثقافة بديلة تعتمد أولا على مبدأ الكفاءة عوضا عن مبدأ المكافأة وعلى جعل المسؤولية غير قابلة للتجزئة، إما ان يكون المسؤول مسؤولا عن كل شيء يقع تحت طائلة مسؤولياته، والا يفضل الا يكون مسؤولا عن اي شيء، يتحمل نتيجة مهامه السلبية والإيجابية على حد سواء، فلا يسعى الى تسجيل الإيجابيات في حسابه وتحميل الغير مغبة السلبيات. مسؤول قادر بكفاءة وهمة واتقان وإخلاص ونزاهة ان يزرع أفكار الإنجاز والتكيف والابتكار فى الأدارة وخدمة الناس ويحفظ حقوقهم بعيدا عن لجة الشكليات والانسياق الى تيار الكلام غير المجدي.
المطلوب أيضاً، تبني الآليات آلتي تكفل الوعي بأن القرارات رهينة بأوقاتها وان أثمانا باهظة تدفع من المال العام لأن قرارات لم تصدر او مشاريع لم تنفذ في اوقاتها، آليات تكفل إخضاع كل وزير ومسؤول للمساءلة والمحاسبة، وتضمن وضع الرجل المناسب فى المكان المناسب، آليات تحول دون إعادة انتاج الأخطاء والتجاوزات ولا تعطي اي فرصة لتكليف نفس الأطراف التي ارتكبت ما يفترض ان تحاسب عليه من ممارسات غير سوية تصحيح هذه التجاوزات والممارسات.
علينا باختصار ان نؤسس لحالة جديدة من الإصلاح الاداري الذي يأخذ مداه الحقيقي عبر ادوات جديدة وضخ دماء جديدة في شرايين إدارة الشأن العام ومنع سد الأفق امام أجيال جديدة لابد ان تمنح الفرصة طالما تتوفر لديها قواعد الكفاءة والقدرة على إدارة دفة المسؤولية بمسؤولية وأمانة ونزاهة وحساب الضمير. وأخيرا علينا ان ندرك بأنه سيكون من العبث حقاً ان نسعى الى نهوض حقيقي لهذا الوطن دون إدارة فاعلة ودون معايير تعي تحولات هذه المرحلة ومتطلباتها وتؤمن بأن الأكفاء هم صناع المستقبل.
ويبقى السؤال الجوهري: من اين نبدأ؟ وأصلا هل نحن حقاً بصدد البدأ..؟!!
حرر في 25 يوليو 2012