إن موضوع محاسبة وملاحقة من ارتكب الانتهاكات يبقى محل تساؤل وتحفظ، وكذلك من تسبّب فيها. فهل كانت استناداً إلى قوانين قديمة كانت نافذة في العهد السابق، أم استناداً إلى قوانين جديدة يتم تشريعها حالياً ويخضع لها المتهمون بأثر رجعي؟
ولعل تجربة البلدان الاشتراكية السابقة تقدّم أكثر من نموذج بخصوص التواصل والاستمرارية القانونية أو القطيعة والفصل مع الماضي، حسب ما أشار إليه الباحث العراقي عبدالحسين شعبان في ورقته التي قدمها في مايو/ أيار 2012 في العاصمة تونس. وكان هذا الموضوع محور نقاش معرفي في ندوة نظّمها «مركز الدراسات الوطنية» و«الاتحاد الوطني الحر».
وبحسب شعبان، فقد أوضح أن «هنغاريا» اختارت على سبيل المثال فقه التواصل، ولهذا كان عدد الذين تمت مساءلتهم قليلاً ومحدوداً، في حين اختارت «ألمانيا الديمقراطية»، فقه القطيعة ولاسيما بعد انضمامها إلى جمهورية ألمانيا الاتحادية، إذ خضع المتهمون بالانتهاكات إلى القوانين الألمانية الاتحادية. أما «تشيكوسلوفاكيا» فقد اختارت في بداية الأمر فقه القطيعة لكنها عادت واختارت فقه التواصل، وخصوصاً عشية انتقال السلطة سلمياً وبصورة سلسة من النظام الشمولي إلى النظام الديمقراطي الجديد.
ويرى المراقبون أن العودة إلى القواعد الأساسية بالنسبة إلى القانون الدولي الإنساني أو القانون الدولي لحقوق الإنسان، فإن مسألة تقديم الجناة ومرتكبي الانتهاكات إلى القضاء، هما اللذان يمكن اللجوء إليهما، فهذه هي القاعدة العامة، لكن الوقائع وضعت بعض الدلالات بشأن الإفلات من المساءلة خصوصاً بتداخل السياسي مع القانوني أحياناً.
ولو نظرنا إلى تجربة تشيلي بعد مرور سنوات على عودة الحكم المدني، فقد حدث تطور مفاجئ بإيداع حاكم تشيلي الديكتاتور أوغستو بينوشيه رهن الإقامة الجبرية، تمهيداً لمحاكمته بعد احتجازه في بريطانيا ومطالبة القضاء في إسبانيا بمحاكمته. وكان الجيش بقيادة بينوشيه قد أصدر قانوناً للعفو الذاتي، خلافاً لتجربة جنوب إفريقيا التي لم تقر مبدأ العفو، وكذلك تجربة الأرجنتين حين كان العفو آخر المسلسل. لكن كشف الحقيقة وتحديد المسئوليات كان المرتكز للمصالحة الوطنية وطي صفحة الماضي لاحقاً.
والمتتبع لما يحدث في الساحة العربية، يجد أن موضع الاعتراف بالخطأ وكشف الحقيقة، يعد أهم التحديات الكبرى في تجارب الانتقال الديمقراطي بعد المساءلة الجنائية.
شعبان اختتم ورقته بعدة نقاط تثير عدداً من التساؤلات، وهي لن تنتهي إلا عندما تتم الإجابة عليها مع استعراض المشهد السياسي كاملاً دون شطب أو نقصان، وخصوصاً أن ضحايا الأنظمة الاستبدادية لن يقبلوا بطيّ أي صفحة إلا بتغيير يحفظ كرامتهم الإنسانية… والإجابة على تساؤلاتهم، مثل لماذا تم كل ذلك؟ كيف حصل؟ من المسئول؟ ولماذا وقعت كل تلك الانتهاكات والتجاوزات؟ وأين الحقيقة؟ وهل يمكن معرفة كل شيء؟ إلى غير ذلك من الأسئلة المشروعة والإنسانية.
المسألة التي ختم بها شعبان ورقته، أن الحقيقة بذاتها تجلب قدراً من التطهّر الروحي الإنساني للفرد والمجتمع بل وتشكّل عنصر ردع مستقبلي ضد الانتهاكات سواءً الإدلاء بشهادات أو روايات حتى وإن اختلطت معها أحداث اجتماعية أو سياسية أو قانونية، لكنها كإقرار حقوقي مهم لتشكيل مدلول قانوني يشحذ الذاكرة ويعيد الاعتبار إلى الضحايا ويسهم في تعزيز العدالة الانتقالية، وبالتالي يوفّر أساساً للمصالحة الوطنية وللانتقال الديمقراطي.
ريم خليفة
صحيفة الوسط البحرينية