حقق جمال عبدالناصر ديمقراطية التعليم عبر تعميمه وإشاعته لكل أبناء الشعب، خاصة الفئات الفقيرة منه، وحقق مقادير مهمة لا ينكرها جاحد من العدالة الاجتماعية، وأطلق نهضة ثقافية وفنية ميزت مصر في تلك المرحلة، وبنى صناعة وطنية ثقيلة، شكلت قاعدة لنهضة البلد الاقتصادية ولاستيعاب الآلاف من الشبان المصريين في حقول الإنتاج، وتجنيبهم البطالة والعوز، وحمى مصر ومزارعيها من الجفاف عبر تشييد السد العالي .
وكلما جاءت ذكرى ثورة الثالث والعشرين من يوليو/تموز،1952 يحضر اسم جمال عبدالناصر الذي أسهمت شخصيته في تشكيل الوعي الوطني الجديد لجيلٍ، وربما لأكثر من جيل، في مختلف البلدان العربية، وظل هذا الرمز الوطني والقومي الكبير، بالتحولات السياسية والفكرية التي مرّ بها، مُلهماً للكثيرين، في حياته، أو حتى بعد مماته المبكر، حيث نُظر إلى وجوده دعامةً رئيسةً من دعامات الأمل والتفاؤل في مستقبل عربي أفضل .
في ظروفٍ أخرى، كان يمكن لهزيمة يونيو/حزيران ،1967 أن تكون باعثاً على إعادة النظر في شخص جمال عبدالناصر وفي دوره، كونه الرجل الأول في النظام الذي تعرض للهزيمة، لكن الحسّ العفوي عند الناس في مصر والعالم العربي كله، جعلها ترى في وجوده، رغم مرارة الهزيمة، تمسكاً بالأمل في التغلب على ما أصاب الكرامة من جرحٍ وهوان .
ولم يكن مُستغرباً والحال كذلك، أن تندفع الناس في حركة شديدة العفوية الى شوارع القاهرة متمسكة بقيادته، ورافضة الاستسلام للهزيمة، وأن تشهد البلدان العربية مسيرات تُطالبه بالعودة عن استقالته . وحين رحل باكراً سارت في العواصم والمدن العربية مسيرات حزينة وجنائز رمزية بعد وفاته .
هذا الحسّ العفوي كان في محله تماماً، لكن شاءت الأقدار أن يرحل جمال قبل أن تعبر القوات المصرية خط بارليف، في الحرب المجيدة التي ما كانت ستكون لولا جهوده في استيعاب آثار الهزيمة، وإعادة بناء القوات المسلحة المصرية وتدريبها والتحضير لها عبر حرب الاستنزاف .
لم تخلُ التجربة الناصرية من أخطاء شابتها، وفي مقدمتها على الإطلاق العلاقة المعقدة مع المسألة الديمقراطية والحريات العامة، خاصة منها حرية التعددية الحزبية، وما نجم عن ذلك من استهداف للقوى الأخرى، بمن فيها القوى الحليفة، موضوعياً، للنظام من يساريين وتقدميين، ولو تغلبت القيادة الناصرية، في حينه، على هذه المعضلة، فلربما كانت رسمت لمصر مساراً مختلفاً عن ذاك الذي ذهبت فيه بعد رحيل عبدالناصر، الذي كان بما له من نفوذ وكاريزما ضمانة صون الخط الوطني، فلما رحل نشأ الفراغ الذي سمح لمن خلفوه أن يرتدوا على منجزاته .
التحدي أمام مصر الجديدة، وقد استوى إلى رئاسة الجمهورية فيها شخص ينتمي إلى تنظيم كان في حال خصومة شديدة مع عبدالناصر وصلت درجة محاولة اغتياله من قبل هذا التنظيم في حادث المنشية الشهير، هو أن تبرهن على سعة أفق، بحجم سعة أفق ثورة 25 يناير، في النظر إلى جمال عبدالناصر والإرث الناصري وثورة يوليو، باعتبار كل هذه العناصر مرحلة فاصلة، مضيئة في الكثير من جوانبها، عبرت بها مصر من الملكية إلى النظام الجمهوري، الذي بفضل عبدالناصر جعل من مصر دولة مهابة مسموعة الكلمة لا في دوائرها الثلاث: العربية والإفريقية والإسلامية فحسب، وإنما على المستوى العالمي كله .