كشفت التطورات الحاسمة في عالمنا العربي عن هشاشة موقف من يصفون أنفسهم بالليبراليين، لا لأن الفكرة الليبرالية هشة، فهي نتاج مدرسة فكرية وسياسية عظيمة متعددة الأوجه والجوانب في تطور الفكر السياسي في العالم، وإنما بسبب كون بعض من يرتدون عباءتها في عالمنا العربي عاجزين عن تمثل هذه الفكرة، لأنهم يفتقدون أحد أهم شروطها وهو الشجاعة .
لا يصح التقليل أبداً من مخاطر الردات الاجتماعية والسياسية المحتملة عن المنجز المتاح في بلداننا نتيجة تطور مديد قطعه المجتمع بفضل جهود ودعوات المصلحين والمجددين، وبفضل ما يَسرهُ انتشار التعليم والوعي، ومجمل التطورات الاجتماعية، في مجالات الحريات الفردية وحقوق المرأة وتحديث بُنى المجتمع المختلفة، وهو أمر تحدثنا فيه غير مرة، ونحن من الرائين أنه يتعين استنهاض كافة قوى الحداثة في البلدان العربية لتقف صداً يحول دون مثل هذه الردات، على خلفية نشوء أنظمة حكم جديدة ينتسب المُستوون عليها إلى أطر حزبية وفكرية معروفة بانغلاقها على ذاتها وتزمتها .
هذا أمر، وأمر آخر أن يجري تحت هذه الذريعة ممالأة قوى الفساد والاستبداد التي أوصلت عالمنا العربي إلى ما وصل إليه من أزمة خانقة، بلغت مستوى لم يعد معه ممكناً تحاشي الانفجارات التي رأيناها ونراها . صحيح أن الليبرالية تعني في أحد مرتكزاتها الأساسية شجاعة التصدي لكل ما يعيق التقدم من قيود على الفكر، ولكن صحيح أيضاً أنها تعني شجاعة الدفاع عن الحقوق السياسية للمواطنين . ولا تصح المطالبة بتحرير العقل من الأوهام، في الوقت الذي يجري السكوت فيه عن الاستبداد الذي من مصلحته تأبيد الجهل وقمع حرية العقل .
كان مفكرون عرب قد رأوا منذ فترة أن الحديث لا يدور فقط عن أصولية محافظة ترفض الغرب في المطلق، وإنما عن أصولية أخرى، ليبرالية الطابع هذه المرة، تلتقي من حيث أرادت أم لم ترد في جوهر الموقف مع الأمر أعلاه في نفيها لفكرة الحوار الثقافي والحضاري، ويمثل هذه الدعوة من يعرفون اليوم ب”الليبراليين الجدد”، ومن يمثلونهم في العالم العربي الذين يحصرون الحداثة في شقها الاقتصادي والفكري، مغفلين بعدها السياسي – الفكري النابذ للاستبداد والداعي للعدالة الاجتماعية والحقوق السياسية .
ينزع دعاة هذه الليبرالية عنها شرط الشجاعة الذي يجب أن تتحلى به، حين يزدرون مفهوم العدالة الاجتماعية، التي تبدو بالنسبة لهم موروثاً فقد شرعيته، لأنها تنتسب إلى عصر الأيديولوجيات والقيم المثالية التي لم يعد لها مكان في عالم اليوم القائم على اقتصاد السوق، وعلى حرية المبادرة الفردية التي يعرف الأذكياء والنشطون استغلالها، وبالتالي فإنهم مستعدون للمساومة على قاعدة جوهرية في الفكر الليبرالي، من خلال تحبيذهم لاستمرار الاستبداد السياسي، والتماس الأعذار له، بحجة الخوف من البدائل المحتملة .
مقارعة الاستبداد هي في الأساس، مسؤولية القوى الحديثة التي تحمل مشروعاً للمستقبل، وهو مشروع ناقص، أو فاشل سلفاً، إن خلا من بعدي العدالة الاجتماعية والمشاركة السياسية، بل إن جوهر الأزمة الراهنة في العالم العربي ناجم عن أن القوى التي أقامت أنظمة باسم الحداثة، أسقطت من اعتبارها، خاصة في العقود الأخيرة، هذين البعدين، فأوصلت بلدانها وشعوبها إلى المهالك التي نعرف .