هذا الإقحام المتعمَّد للاقتصاد في مسيرة الثورات والحراكات العربية
يتطلب فهماً عميقاً للموضوع واتفاقاً على نوع العلاقة التي يجب أن تسود
فيما بين الاقتصاد والسياسة. إن قوى الثورات المضادة تتحدث ليل نهار عن
تراجع السياحة والاستثمارات، وعن ارتفاع نسب البطالة وغيرها من جوانب
الاقتصاد في بلدان الثورات والحراكات. وهي بذلك تريد حشر المواطنين في
زاوية الاختيار بين حلّ الإشكاليات السياسية أو حلّ الإشكاليات الاقتصادية.
هذا
اختيار لا معنى له، ذلك أن الاقتصاد لم يكن قط مستقلاً عن السياسة وعن
هيمنتها عليه حتى يضطرَّ المواطنون للاختيار. فالحياة السياسية المؤسَّسية
الديمقراطية غير الفاسدة وغير المسيطر عليها من قبل أقليّات الامتيازات، لا
يمكن إلا أن تؤدّي إلى اقتصاد إنساني أخلاقي عادل. والعكس صحيح. ولذا
فالمحاولة العولمية لإقناعنا بأن الاقتصاد له قوانينه الذاتية التي لا رادّ
لها هي محاولة مضلّلة، ذلك أن الاقتصاد والسياسة هما من صنع الإنسان، ومن
صنع المواطنين، وبالتالي يمكن تغييرهما وإصلاحهما ووضع مسار جديد لهما.
قيادات
الثورات والحراكات إذن يجب أن لا تخضع للابتزاز ولا تستبدل الديمقراطية
والحرية والكرامة التي تحارب من أجلها بنجاحات، هي في الأصل كانت متواضعة
ومتذبذبة، في بعض جوانب الاقتصاد من مثل السياحة والاستثمارات الأجنبية
والمظاهر الكمالية.
لكن ذلك لا يعني إعفاء قوى الثورات والحراكات من
إعطاء الاقتصاد اهتمامها الكبير، بل على العكس من ذلك. إنّما المطلوب في
الحال هو الاتفاق على أسس وقوانين وضوابط الاقتصاد التي يجب أن تتبنّاها
أنظمة وحكومات وبرلمانات ما بعد الثورات والحراكات، والتي يجب أن يحارب
المواطنون بشتى الطرق من أجل تبنّيها من قبل تلك الجهات التشريعية
والتنفيذية.
مربط الفرس هو أن تعرف قيادات الثورات والحراكات نوع
وأسس الاقتصاد الذي تريد من أنظمة الحكم الجديدة التوجّه إليه. أن تعرفه
وتجعله جزءاً من المسار السياسي للثورات والحراكات حتى يطمئنّ المواطنون
بأن المستقبل يحمل حلولاً اقتصادية تنموية عادلة من أجل الجميع وبالجميع.
هنا
دعنا نذكّر أنفسنا بأننا نحن العرب لا نحتاج إلى أن نبدأ من الصّفر أو
المربّع الأول. فمنذ بضع سنوات صدر بيان مدعوم من مئات الباحثين
الاجتماعيين في مختلف دول الغرب الرأسمالي تحت عنوان «مانفستو من أجل
اقتصاد إنساني»، وقد صدر ذلك البيان من قلب ساحات العولمة الرأسمالية
المتوحّشة الجائرة كردّ فعل على ما أدّى إليه ذلك الاقتصاد العولمي من ظلم
وتهميش وإفقار وتوزيع غير عادل للثروات طال جميع المجتمعات البشرية. يقول
ذلك البيان:
«إن النهاية الشرعية الوحيدة لأي اقتصاد هي كيفيّة
الحياة التي يعيشها الرجال والنساء، بدءاً من أولئك المحرومين منهم. إن
كيفيّة الحياة تلك يجب أن لا تشمل فقط الاستجابة لحاجات وتطلعات الإنسان
المادية وإنّما أيضاً مجموعة التطلعات الأخرى من مثل الكرامة الإنسانية،
السَّلام، الأمن، الحريَّة، التربية والتعليم، الصحَّة، حق َّ الاختيار،
نوع البيئة التي يعيش فيها الإنسان، وحقوق الأجيال القادمة… إلخ.
يتابع
البيان بالتأكيد على أن الكرامة الإنسانية والعدالة لا يتعارضان على
الإطلاق مع الكفاءة الاقتصادية في استعمال الموارد وتصنيعها وعدم بعثرة
جهود العاملين في حقل الاقتصاد. هذا التعارض وُجد في خيال من يريدون
الاقتصاد مستقلاً عن أية التزامات قيمية وإنسانية وسياسية.
هناك
ضرورة أن لا تنشغل قوى الثورات والحراكات بظواهر مؤقتة من مثل تناقص عدد
السوَّاح في هذا البلد وتباطؤ الاستثمارات في ذاك البلد، أو تحذيرات يطلقها
ذاك الصندوق الدولي أو تلك الجهة الإعلامية المشبوهة. بدلاً من بعثرة
الجهود في مواجهة قضايا اقتصادية هي نتاج نظام أو فكر اقتصادي سابق فاشل،
مطلوب التعاون مع مفكّري السياسة والاقتصاد والاجتماع العربي لوضع تصوُّر
جديد تنموي إنساني لاقتصاد المستقبل ليصبح برنامج كل الأنظمة التي سيلدُها
الربيع العربي مستقبلاً. برنامجاً لا ينحصر في متطلبات العولمة فقط وإنما
يتخطاها إلى رحاب قومية وإنسانية أكبر وأعدل.
علي محمد فخرو
صحيفة الوسط البحرينية