المنشور

أهل السيف وأهل القلم

ما
كان يغيظ إدوارد سعيد في الدراسات التي اهتمت بكتابة تاريخ الاستعمار
الحديث هو اهتمامها المسرف بدراسة التاريخ العسكري لهذا الاستعمار بصفته
غزوات في نتيجته أوقع المستعمرون بلدانا بعيدة وشاسعة تحت سيطرتهم، وإغفال
البعد الثقافي في الهيمنة على هذه الشعوب .

وهو حكى، ذات مرة، عن أن طالبة دكتوراه لديه، هندية الأصل، نبهتهُ إلى قضية مهمة، حين لاحظت  في
أطروحتها الموسومة: “أقنعة الغزو” أن تاريخ الأدب الإنجليزي ابتدأ تدريسه
في الجامعات الهندية يوم كانت الهند تحت الاحتلال البريطاني، وليس في
الجامعات البريطانية ذاتها، حيث يُفترض . فالمنطقي أن يتوجه الإنجليز نحو
تعليم أبنائهم وبناتهم تاريخ أدبهم، ولكنهم لم يفعلوا ذلك في البداية،
وإنما اختاروا أن يقوموا بذلك في جامعات الهند، قبل أن يجري تعميم الأمر
على الجامعات البريطانية .

استدل
سعيد بهذه الحكاية لتعزيز أطروحته الأساسية في كتابه الشهير: “الثقافة
والإمبريالية”، المبنية على أن الإمبراطوريات الاستعمارية الحديثة:
البريطانية والفرنسية، وفي وقت لاحق الأمريكية، اعتمدت على إعادة تشكيل
أذهان شعوب المستعمرات بقبول الاستعمار بصفته ناقلاً حضارياً لها من التخلف
إلى التقدم، من الهمجية إلى الحضارة .

لا
يغفل سعيد أهمية القوة الغاشمة في إخضاع الشعوب وإكراهها وقمع مقاومتها،
ولكنه ينبه إلى أن القوة وحدها لم تكن الأداة أو الأسلوب الوحيد الذي
اعتمده المستعمرون لتحقيق مآربهم في بسط نفوذهم، فهو يحثنا مثلاً على
ملاحظة أن الهند التي ظلت تحت الحماية البريطانية نحو ثلاثة قرون متواصلة،
والتي كانت بالنسبة إلى الإنجليز عن حق، درة التاج الملكي، فإن قوة الجيش
البريطاني كانت عند الحد الأدنى في أغلب الحالات، خاصة إذا ما أخذنا بعين
الاعتبار مساحة الأراضي التي كان الاستعمار يديرها ويحتلها .

كان
غرامشي أول من فرق بين مفهومي السيطرة والهيمنة، أفرد الأول للقوة،
وبالثاني عنى أشكال التكييف والإخضاع الأخرى، وفي مقدمتها العامل الثقافي .
واستفاد سعيد من غرامشي في دراساته عن تجليات النفوذ الكولونيالي في
المستعمرات، حين ركز على أن القوة الغاشمة لاحتلال البلدان وقمع مقاومة
شعوبها للمحتل والغزاة والمستعمرين لم تكن هي الأسلوب الوحيد لبسط النفوذ،
وإنما استخدام وسائل الإقناع لحمل شعوب هذه البلدان على قبول الاستعمار
بصفته رافعة حضارية: “نحن هنا من أجل تقدمكم ورقيكم”، في سبيل بسط الهيمنة،
ومن هنا أتى التقابل بين دلالتي: السيف والقلم، اللتين تبدوان متنافرتين
في الشكل، ولكنهما ليستا كذلك في تطبيقات إدوارد سعيد .
وما
شدّ إدوارد سعيد إلى غرامشي ليس التقسيم بين المثقف العضوي والمثقف
التقليدي، وهي الأطروحة الأكثر رواجاً بين أطروحات الرجل، خاصةً في صفوف من
اهتموا بقراءته في العالم العربي، وإنما كون غرامشي مهتماً بكل شيء . ومع
أنه كان مقيّداً بشدة بحكم وضعه الصحي وبحكم كونه سجيناً لفترة طويلة، فإنه
مر بتجارب مدهشة كثيرة تجلت في رسائله وفي الوقت الهائل الذي أمضاه في
القراءة والكتابة في السجن، وهو أمر يمثل مغامرة إنسانية كبرى في التجارب
الإنسانية، غايتها الأسمى مساعدة الناس على فهم الآليات التي يتم بها
استعبادها .