في
العام 1987 نشر بل كيندي أطروحة “أن التوسع الإمبريالي المفرط” يمكن أن
يكون عبئاً على الولايات المتحدة، كما حدث قبل ذلك لبريطانيا . وبناء على
هذه الأطروحة بالذات، قام بعض المحللين بالمقارنة بين “واشنطن دي سي”، وبين
روما الإمبراطورية، ولندن القرن التاسع عشر، ليثبتوا أن تلك العاصمة
المتغطرسة، المتعجرفة، لإمبراطورية منهارة، تحكمها نخبة فاسدة محصنة .
“إن
كثيراً مما حدث حينذاك يحدث الآن”، هكذا كتب أحدهم، مُلاحظاً شدة
الاستقطاب الاقتصادي واضمحلال الطبقة الوسطى وانتشار الترف، مستنتجاً أن
“أعراض الاضمحلال تقف دليلاً على الاضمحلال ذاته” . وتبدو الإجراءات
السياسية للتعامل مع هذا الوضع أكثر سلطوية، مع تنامٍ في القوة البوليسية،
وانتشار العداوات العرقية وأعمال التمرد، وقمع الحريات الشخصية .
هذا
النفس التشاؤمي لا يأتي من هواجس مَرَضيّة أو من مواقف عدائية، لأن الحديث
عائد إلى مؤلفين أمريكيين يُحبون وطنهم ويخشون عليه، ومن طبيعة الباحث ذي
الحاسة النقدية أن يدفع باستنتاجاته إلى حد التشاؤم، لأنه يرى أبعد مما
تراه النظرة العجلى التي تبشّر ولا تحذّر .
منذ
أكثر من عقدين، كان كاتب أمريكي قد لاحظ أنّ أي ناشر ذكي يعنون الكتب التي
تصدرها داره بما يشي بوجود أزمة في أمريكا، لكن آرثر هيرمان مؤلف كتاب
“فكرة الاضمحلال في التاريخ الغربي”، يرى أن هذه الرؤية التشاؤمية تشبه كل
الرؤى الخاصة بمستقبل أمريكا . هناك الكثير الذي يدعو إلى مثل هذا التشاؤم،
خاصة مع الأزمة المالية المدمرة التي تعصف بها، وبالنتيجة بالعالم كله،
وتدفع إلى حالٍ من التشوش العميق وعدم الثقة في المستقبل .
كان
على المجتمعات، حكومات وشعوباً، أن تدفع ثمناً باهظاً لكي تختبر
الليبرالية الجديدة حظوظها في التطبيق، منذ أن وضع الثنائي الشهير ريغان –
تاتشر قواعدها في الممارسة . فالمحللون يصفون هذه السياسة بأصولية السوق
التي وجدت تعبيرات لها في مفردات من نوع: الخصخصة، والتحرير، والبنوك
المركزية المستقلة التي تركز على التضخم .
إنها
أزمات بنيوية، وليست مظاهر عابرة يمكن تسويتها، كما يحاول البعض إيهامنا،
وإن العالم كله يتضرر من آثارها، كما تضرر من سياسة الهيمنة والعدوان
واحتلال أراضي البلدان الأخرى، ودعم أنظمة الاستبداد، ومجمل النهج القائم
على الغطرسة والاستخفاف بالتضاريس الثقافية والفروق الحضارية في العالم،
وإخضاعه بالقوة لنهج لا يحظى بالقبول لدى قطاعات تعد بالمليارات من البشر .
ستتوسل
السياسة الغربية خطاباً خادعاً عنوانه دمقرطة المجتمعات غير الديمقراطية،
وهو خطاب خادع، لأن هذه السياسة بالذات كانت مسؤولة، وعلى مدار عقود، عن
رعاية الاستبداد وحمايته في غير منطقة من العالم، وكانت الاستخبارات
الأمريكية مدبراً للعديد من الانقلابات العسكرية في الشرق الأوسط وفي
أمريكا اللاتينية التي مارست الاستبداد الدموي ضد القوى الديمقراطية
والتقدمية، وأعاقت المسار الديمقراطي في هذه البلدان . حدث هذا مع الانقلاب
الدموي على حكومة الدكتور مصدق في إيران في الخمسينات، ومع الانقلاب على
حكومة الدكتور سلفادور الليندي في تشيلي، وما بين هذين الانقلابين وما
قبلهما وما بعدهما عشرات الانقلابات المشابهة، فضلاً عن توفير الدعم لأنظمة
غير ديمقراطية وإطالة أمد بقائها . ما يجري هو إعادة صوغ أشكال الهيمنة
على العالم، ومدّها بديناميات جديدة بعد أن فقدت الديناميات السابقة زخمها .