المنشور

مساعدة الثورات على بنائها الذَّاتي – د.علي فخرو

أكثر ما يخلق البلبة ويثير الشكوك في أذهان الشعوب العربية بشأن موضوع
الثورات والحراكات العربية هي بعض المناقشات العبثية في بعض وسائل الإعلام
العربي وبعض الكتابات المنغمسة في التحليل والمهووسة بالاستنتاجات التي لا
تقدٍّم ولا تؤخّر والتي يتلّذذ بكتابتها بعض الكتاب العرب صباح كل يوم في
هذه الصحيفة أو تلك.

يظهر من مستوى واستمرارية ذلك الانغماس أن هؤلاء
لم يقتنعوا بعد أن الذي يجري في أرض العرب هي انعطافة كبرى شعبية ضخمة
تريد قطع الصٍّلة بفترة سابقة تميَّزت بالذلِّ المخجل وبالاستخفاف الحقير
بكرامة وحقوق الشعوب وبالنهّب والسَّرقة والفساد. مازال هؤلاء لا يصٍّدقون
أننا لسنا أمام أحداث سياسية عابرة ومماحكات بين السلطات وبين بعض القوى
المعارضة.

من هنا يستمع المواطن العربي كل يوم للمناقشات ويقرأ ما
يكتب بشأن الموقف الأميركي أو الأوروبي أو الصهيوني أو بعض دول الإقليم من
هذه الثورة أو تلك، من هذا الحراك أو ذاك. يمعن هؤلاء، تحليلاً وتنبؤاً
وهلعاً، في النّظر إلى هذا الموقف أو التصريح أو التعليق أو ذاك، لمسئولي
هذه الدولة أو تلك. ويعطون كل كلمة يتلفظ بها الآخرون أهمية كبرى إلى الحدّ
الذي يُشعر المستمع أو القارئ العربي أن مصير الثورات والحراكات تقرّر
وسيتقرَّر في واشنطن أو باريس أو أنقرة أو القدس المحتلّة.

والأمر
نفسه ينطبق على تصريح بليد ينطق به أحد الإسلاميين المتزمتين المتخلفين أو
يخرج من فم أحد الليبراليين المغتربين السذَّج الذين قطعوا الصٍّلة مع
مجتمعاتهم وثقافتها. هنا تثار المخاوف من تراجع الأمة إلى عوالم التخلف أو
توهانها في التبعية لهذه الايديولوجية أو تلك الحضارة.

وينطبق الأمر
نفسه على مظاهرة غوغائية صغيرة تطرح شعارات هامشية تخرج في هذه المدينة أو
تلك القرية أو على خطأ عفوي ترتكبه تلك المجموعة السياسية المحسوبة على
الثورة. عند ذاك يبدأ النُّواح والعويل مبشّراً بانحراف الثورات ومؤكداً أن
الشعوب العربية لم ترتقِ بعد لتكون من الشعوب القادرة على خوض الثورات إلى
نهاياتها.

تلك المناقشات والكتابات، بالإصرار اليومي على إبرازها
وانتشارها وبالمستوى السَّاذج أو المريب الذي تتمّ فيه وبتكرار بعض الوجوه
المشبوهة في التّعاطي معها، لا يمكن إلاَ أن تؤدٍي إلى الآتي:

أولاًَ:
زرع الشُّكوك المحبطة بشأن قدرة الثورات والحراكات على الدًّفاع عن نفسها
ضد التدخلات والمؤامرات الخارجية، لكأن قدر العرب الذي لا مفرَ منه هو بقاء
حاضرهم ومستقبلهم رهناً لإرادة الغير. وهو قدر لا خروج منه تحت أيِّ حكم
كان، وأن سقوط الأنظمة السابقة الفاسدة الضعيفة أمام تدخلات الخارج ومجيء
أنظمة جديدة من رحم الثورات وبهدي من شعاراتها لن يغير شيئاً، فالخارج سيجد
له طريقاً للتحكم بالداخل.

والواقع أنه أذا كان تصريح لوزيرة خارجية
أميركا أو تعقيب لمسئول صهيوني في فلسطين أو في أوروبا أو في طهران سيكون
له تأثير على مسار ثورات الأمّة العربية وعلى عنفوان صعودها بقوى الدّاخل
الذاتية… فإن تلك الثورات لا تستحق الوجود أو الدعم وأن مصيرها سيكون
الفشل والعبث. والذين يؤمنون بتلك الثورات لن يسلّموا بذلك قط.

ثانياَ:
إن انتقال مجتمعات الثورة من حياة الاستبداد والبطش الأمني الظالم إلى
حياة الحريات لا يمكن إلاً أن يؤدّي، وخصوصاً في مراحله الأولى الانتقالية،
إلى وجود من يسيء استعمال تلك الحريات في شكل مظاهرات واحتجاجات لا معنى
لها أو في شكل اتخاذ مواقف أو النطق بتصريحات غير مسئولة وغير منضبطة. إن
اعتبار حدوث مثل هذه الإساءات والأخطاء كحكم على نقاء ونبل ومستقبل الثورات
هو حكم ظالم، إن لم يكن مشبوهاً انتهازياً.

ثالثا: المنطق والوطنية
وتبني أحلام الأمة تتطلب أن تركز أغلب المناقشات والكتابات جهودها على نقاط
القوة والضعف في سيرورة ومكونات الثورات لتقوي عزيمة القائمين بها من جهة
ولتساعدهم على إصلاح نقاط ضعفها من جهة أخرى.

إن ما يهم في هذه
المرحلة بالذّات هو تجييش الجماهير وتقوية إيمانها بالثورة، والتركيز
العميق الدائم على إنهاض وتنويع القدرات الذاتية، وإعطاء فرصة كبيرة لخروج
شباب الثورات على المسرح السياسي والإعلامي، والتعامل العلمي الوطني مع
عثرات الحراكات ليتم تصحيحها.

أما ما يقال، بل وحتى ما يحاك في
الخارج فإنه أولاً خارج سيطرتنا، وأن إعطاءه الاهتمام الذي يحظى به الآن
سيكون على حساب البناء الذاتي للثورات.

علي محمد فخرو

صحيفة الوسط البحرينية