في حديث سابق تناولت ثقافة «الإفلات من العقاب»، وكيف أنها تدمر
المجتمعات. وهناك ثقافة أخرى خطيرة وهي «إنكار الواقع»، وخطورة هذه الثقافة
أنها تمنع تشخيص الواقع المؤلم وتمنع حدوث الحل السياسي المطلوب لمعالجة
الأزمة السياسية.
وثقافة «إنكار الواقع» تعني أن هناك من ينكر معرفته
بما يجري من انتهاكات وممارسات غير إنسانية ومعاناة للمجتمع بمختلف صنوفه،
وهذا الإنكار يتطور إلى اتباع سياسات وإجراءات لعرقلة مسيرة الحياة
الطبيعية، وغض الطرف عن أولئك الذين يرتكبون الانتهاكات، وإغلاق الآذان
والأعين، وعدم الاستماع لأي وجهة نظر لا تصدر من جهة واحدة فقط يهمّها
استمرار الواقع على ما هو عليه. وهذه الجهة لها رؤية مقلوبة للواقع ترى فقط
ما تريد أن تراه وتسمع فقط ما تريد أن تسمعه، وتوظف لها من يردد لها
أقوالها لعل وعسى يتحول الواقع إلى القصة الوهمية التي تروّجها بهدف
الاستمرار في إنكار الواقع.
من هنا تسعى الدول التي تشهد اضطرابات
سياسية إلى توظيف شركات علاقات عامة لتجميل الواقع من دون إصلاحه، ولكن هذه
الأساليب إنما تعمق المشكلة لأنها تساعد على إنكار ما يحدث في الساحة
الداخلية. وهذه الشركات لا يهمها ضياع بلد بأكمله لأن هدفها الربح وإرضاء
من يسعى للاستمرار في إنكار الواقع.
والذين ينكرون الواقع لا يلجأون
فقط إلى شركات علاقات عامة ولكن يلجأون أيضاً إلى سياسة تفريق الناس وخلق
الاستقطاب بين فئات المجتمع، معتقدين بأن هذا الاستقطاب سيساعد على تغيير
الواقع إلى حالة «متوهّمة» بعيدة كل البعد عمّا تمر به الساحة الداخلية من
قضايا ومطالب أساسية، لا ترتبط بفئة واحدة فقط وإنما بكل إنسان يسعى للعيش
الكريم بحسب ما ورد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
وحالياً فإن
المنطقة العربية تمرّ بصحوة ديمقراطية انتقلت مع انتفاضات وثورات الربيع
العربي منذ مطلع العام 2011 وشملت أكثر البلدان من المحيط إلى الخليج، ونحن
لا نستطيع أن ننكر على العرب ربيعهم كما لا يستطيع أي مخلوق أن يحذف أي
بلد عربي من خريطة انتفاضات الربيع العربي، والأفضل أن ينفتح الجميع على
الواقع كما هو من دون إنكار.
المراقبون يرون في المنطقة العربية
نموذجاً لنشر وتغلغل هذه الثقافة لكونها تمنع الحل السياسي وتشجع على
المزيد من التخبطات وارتكاب المزيد من الانتهاكات، ولا يهمّها لو كانت هناك
لجان تقصي حقائق تخبرها بالأهوال وتنكر بمسئوليتها لإصلاح الوضع بما يلمّ
الشمل.
وترى أن المنكرين للواقع يعيشون حالة من اللاوعي وعدم
الاكتراث بالرأي العام العالمي أو غير العالمي، وتبحث دائماً عمّن يسرد
الأوهام بطريقة مملة ولا يصدقها أحد.
لقد لخص موقع الجمعية السعودية
للدراسات الاجتماعية ما جاء في كتاب «الصحة النفسية والعلاج النفسي» لحامد
زهران، الذي تحدث عن أهمية «العلاج بالواقع»، أو الإرشاد نحو الواقع، وهي
طريقة يقوم فيها العلاج على ثلاثة مفاهيم رئيسية، وهي أولاً «فهم الواقع»
المعتمد على الخبرات الحقيقية الشعورية في الحاضر، ويعبر عن واقع الحياة
بعيداً عن المثال أو الخيال، والفرد السوي هو الذي يتقبل الواقع ولا ينكره،
حيث إن من أهداف العلاج تنمية الواقع. وثانياً «القدرة على تحمل
المسئولية» وهذه تتجلى في القدرة على قيمة الذات، والجدية، والأمانة،
والصدق، والنزاهة، والحكمة. وثالثاً ضبط مبدأ «الصواب والخطأ» كمعيار
أخلاقي يحدد السلوك السوي وغير السوي.
وعلى رغم أن الكتاب يتحدّث عن
حالات الأفراد، إلا أن الوضع لا يختلف تماماً عندما يكبر الوضع ويتحوّل من
فرد إلى جماعة أو جهة، يصيبها حالة من إنكار الواقع الذي يمنع عنها إمكانية
التعافي والعلاج، وذلك لأن العلاج يعني أن تكون هناك شجاعة للتعرف على
الواقع، وشجاعة للاعتراف بالواقع، وشجاعة لاتخاذ ما يلزم لإصلاح الخلل.
إن
عالم السياسة متجدد ولا يمكن العيش على أطلال ما كان يرسم ويحدد للأنظمة
في مراحل سابقة. فما كان صالحاً بالفرض على المواطن ما عاد اليوم ممكناً
لأنه أصبح جزءًا من الكرامة الوطنية، والمواطن ليس عبداً مطيعاً للحكام،
ولكنه مواطنٌ وإنسانٌ له حقوق وواجبات، ويلعب دوراً في القرار السياسي الذي
لا يخصّ فرداً أو جماعة معينة، وبالتالي فإن إنكار واقع المتغيرات التي
تعيشها المجتمعات قد يؤدي إلى إصلاح ومشاركة سياسية حقيقية، أو اضطراب
الدول الذي ينتهي بالتغيير الجذري.
وهو ما أشار إليه الكاتب المصري
عاطف الغمري قبيل أحداث الربيع العربي في (5 مايو/ أيار 2010) في مقال كتبه
تحت عنوان «الديمقراطية… ليست عرضاً وطلباً»، نشره موقع «الأهرام
الرقمي» قائلاً: «التاريخ لا يتغير، لكن الفكر السياسي في إطار الحقب
التاريخية المتتالية، قابل للتغير والتطور». وأضاف: «المفاهيم السياسية
تغيرت… الديمقراطية والأمن القومي، وقدرة الدولة ومكانتها ونفوذها
والحياة اليومية للمواطن… كلها قد انزاحت بينها الفواصل، وتشابكت في
بعضها، وصارت كل منها تؤثر في الأخرى وتتأثر بها. ولم تعد الديمقراطية في
إطار هذه التغيرات، مجرد أفكار لنظام سياسي، لكنها صارت متصلة مباشرة
بالكرامة الوطنية، والأمان الداخلي، وفرص التوظيف، والقدرة على تكوين أسرة،
وجودة التعليم، والارتقاء بالبشر، بل وأن تكون الأسعار محتملة ومنضبطة،
والحياة المعيشية ليست مستعصية».
وهو ما يعني أن التغيير سيستمر رغم
مقاومة الأنظمة، لأنها رغبة طبيعية صادقة انطلقت من صميم إرادة المواطن
العربي الذي يريد نظاماً سياسياً لا ينكر الواقع ولا يمنع الحل السياسي.
ريم خليفة
صحيفة الوسط البحرينية