لم تخفت أو تضعف، في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، ثنائية التقليد الحداثة التي تعد أحد عوامل الجدل فيها، سواء كان ذلك على صعيد الفكر والنظرة للحياة أو على صعيد الخيارات الاجتماعية الثقافية، التي تشمل ضمن ما تشمل شكل الحكم والمشاركة السياسية . ونتحدث هنا عن الحداثة بوصفها حركة انفصال، فهي قطع مع الماضي، ولكن ليس بهدف نبذه وإنما لاحتوائه وإدماجه في مخاض التحديث المتجدد، فهي والحال كذلك اتصال وانفصال، والحداثة حين تصيب المجتمع التقليدي بصدمة تجعله يشهد اهتزازات وتحولات في كل مستويات نسقه الاجتماعي، إما في اتجاه التكيف معها أو في اتجاه رفضها، مُطلقة في هذه المجتمعات صراعاً عسيراً بين مقومات التقليد، ومقومات الحداثة .
وهذا الصراع ليس اختيارياً أو إرادياً، بل هو مخاض موضوعي ناتج عن مظاهر تقدم الحداثة التي تتحول إلى خيار كاسح يغزو كل الآفاق والفضاءات بمختلف الوسائل والآليات، كما أنه صراع مفتوح لأنه يُقحم هذه المجتمعات في مخاض من التحول الطويل المدى . بل إن الدولة، من حيث هي شكل حديث لتنظيم المجتمع وإدارته، كثيراً ما اصطدمت بالبنى السابقة لها التي مازالت تحتفظ بدرجة عالية من القوة والتماسك التي تجعلها فعالة ومناقضة لها، وفي بعض الحالات بديلاً ممكناً أو محتملاً عنها في المناطق التي لا تستطيع هذه الدولة من حيث هي سلطة مركزية أن تفرض نفوذها .
ولذا يتسم الانتقال من الحالة التقليدية السابقة للدولة إلى الدولة من حيث هي جهاز الإدارة الحديث بالصعوبة، ويحمل معه مظاهر مؤلمة، وقد يفرز في بعض الحالات شيئاً من ازدواجية السلطة أو تقاسمها، بحيث تبدو الدولة مضطرة للتنازل عن بعض مهامها للبنى السابقة لها، وتراعي عدم استفزازها أو استدراجها للمواجهة، وشهدنا، ونشهد نماذج لذلك في الحالة اليمنية، لكن هذه الصورة المسالمة للعلاقة قد تنهار تحت ضغط تمادي نفوذ البنى التقليدية، كالقبيلة أو العشيرة أو الطائفة، مما يؤدي إلى انهيار الدولة ذاتها، كما حدث في الصومال مثلاً .
وهذا النوع من التضاد يلفت نظرنا، من جهة أخرى، إلى مفارقة باعثة على الأسى، فالحديث على النطاق العالمي وتحت تأثيرات العولمة، يدور حول ضرورات تنشيط وتطوير وتفعيل مؤسسات المجتمع المدني، وتزداد الدعوة للحد من سطوة نفوذ الدولة لمصلحة دور أكبر للمجتمعات الأهلية ليس في مجال الاقتصاد وحده، من خلال الحديث الدائم عن الخصخصة وتوسيع دور القطاع الخاص، وإنما كذلك في مجالات السياسة والخدمة الاجتماعية والنشاط الثقافي والفني .
لكننا ما برحنا في مرحلة نضطر فيها للمطالبة بدورٍ أكبر للدولة لضبط نزاعات المؤسسات السابقة لها، وللتأكيد على أهمية بسط نفوذ الدولة بديلاً لنفوذ هذه المؤسسات التي لم تضع خطة لتفكيك عوامل قوتها وتأثيرها، لأن هذه البنى تخترق الدولة، وتميل الدولة، بإرادتها الطوعية في حالات كثيرة، للتماثل، لا بل والتماهي مع هذه المؤسسات، فتكون الحصيلة الإخفاق مرتين: مرة في العجز عن بسط نفوذ الدولة، ومرة ثانية في جعل الدولة في بعض وجوه نشاطها امتداداً لنفوذ المؤسسات السابقة لها هروباً من استحقاقات التحديث الحقيقي، وحفاظاً على المغانم التي لا تستقيم مع شروط الدولة .