المنشور

قوة المنطق لا منطق القوة


تتفشى في حياتنا العربية الراهنة مظاهر مختلفة من التعصب والتطرف والعنف. فإضافة إلى العنف المدمر الذي يحصد الأرواح ويسفك الدماء في العديد من دولنا، هناك العنف المبطن الذي يمارسه المجتمع على أفراده حين يتخذ أشكالاً رمزية مهذبة في الظاهر، عنيفة في الباطن. وهناك العنف الذي يمارسه الشخص على ذاته، سواء لاحظ ذلك أو لم يلاحظ، تماهياً مع ما هو سائد أو اتساق قسري معه، وبعض من درسوا ظاهرة العنف السائدة في أكثر من بلد عربي، نبهوا إلى الترابط الوثيق بين العنف السياسي والعنف الاجتماعي، لا بل والثقافي، من زاوية أن الأول ينتج في أشكاله الصارخة عن الاثنين الأخيرين، وبعضهم ذهب لتقصي جذور التفكير العنفي والممارسة العنيفة في التاريخ العربي، وبعضهم الآخر استوقفته عبارة نيتشه القائلة إن الواقع ليس إلا كميات من القوة في علاقات توتر، ليرى في هذا العنف أحد مظاهر علاقات التوتر بين كميات القوة.
 
ويذهب الدكتور فؤاد زكريا، ومثله الدكتور حسن حنفي، إلى أن التعصب يتضمن عنصرين، أولهما هو اعتقاد المرء بأن الفئة التي ينتمي إليها، سواء كانت قبيلة أو وطنا أو مذهبا فكريا أو دينيا أسمى وأرفع من بقية الفئات، أما العنصر الثاني فهو اعتقاده بأن تلك الفئات هي، بالنتيجة، أحط من تلك التي ينتمي إليها هو.
 
لذلك فإن المتعصب يميل إلى إلحاق الضرر بالغير ممن يشعر تجاههم بالحقد أو الحسد أو الاحتقار، والتعصب لهذا السبب ليس جرعة زائدة من التدين مثلا أو الانحياز لرأي، بقدر ما هو موقف سياسي وفكري مبني على تعبئة نفسية خاطئة وخطيرة، كونها لا تخاطب عقل الإنسان ووعيه، وتدفعه إلى التصادم والمواجهة مع المجتمع برمته عندما يرمى بالكفر والفسق، من الموقع الذي سماه أحد الكتاب «الاستعلاء بالإيمان» الذي يفترض أن صاحبه أكثر إيمانا من بقية الجماعة وانه على صواب، فيما الآخرون على خطأ وضلال.
 
ومن طبيعة المتعصب أن يكون غير موضوعي، فهو يعالج القضايا المعقدة بالتبسيط وبالشعار والهتاف وأحياناً الزعيق، هو لا يرى سوى وجه واحد من الدائرة أو شجرة واحدة في الغابة. إن الدعوة إلى التسامح والاعتدال ليست مجرد دعوة أخلاقية في ظرفنا الراهن. إنها واجب وضرورة على عاتق الجميع مهما تعددت تلاوينهم الفكرية، لمواجهة الهاوية التي يندفع إليها العديد من البلدان العربية، حيث تتفكك الوحدة الوطنية وتتشرذم الشعوب إلى أقوام وملل وجماعات مسلحة تنزلق بجنون إلى سراديب وأنفاق العنف المظلمة والمسدودة، ويتطلب هذا رد الاعتبار للعمل الإصلاحي التنويري الذي عرفناه في مراحل سابقة من تاريخنا، بوصف هذا العمل فضاء يتسع لحقول الفكر والتربية والمعارف والأخلاق، ونبذ التطرف والتعصب، حيث هما نفي للآخر وإيمان بالمطلق، وتعلم القدرة على التعايش مع الأفكار الأخرى ومجادلتها بالتي هي أحسن ومقارعتها بالحجة وقوة المنطق لا منطق القوة.


2 يوليو 2012