ليست مجريات الأمور في مصر، خاصة بعد الاستقطاب الثنائي في دور الإعادة للانتخابات الرئاسية بين الفريق أحمد شفيق ومرشح الاخوان المسلمين محمد مرسي، هي ما كشف عن عمق المأزق الناجم عن غياب الكتلة الثالثة، كتلة التوازن بين تطرفين، ولكنها دفعت بتجليات هذه الأزمة إلى الصدارة، وأظهرت ما نجم عن عدم حضورها، موحدة وفعالة ومؤثرة، من أسوأ الأثر ليس على مستقبل العملية السياسية في مصر وحدها، وانما في العالم العربي برمته، وهو يشهد هذا المخاض التغييري، في مرحلة حاسمة من تاريخنا.
أفراد ومكونات هذه الكتلة موجودة في المجتمع، وهي كتلة تملك قاعدة اجتماعية واسعة، لو جرت تعبئتها بصورة فعالة، ولكنها موجودة فقط على شكل قوة كامنة، بسبب تشتتها وعجزها في توحيد صفوفها في إطار جامع، وهو أمر أدى إلى شل اخفاقها في أن تكون نداً لطرفي الاستقطاب الحاد الناشىء في غير بلد عربي.
فأحداث مصر الأخيرة، ومسار الانتخابات الرئاسية فيها دفعت بقطاعات واسعة من المصريين، احتجاجاً على ما اعتبروه «ديكتاتورية الخيارين»، إلى اللجوء إلى واحدٍ من أمرين: مقاطعة الانتخابات أو إبطال الصوت. تنوعت خيارات هذا القطاع فى الجولة الأولى للانتخابات، فمجموعة منهم ذهبت إلى حمدين أو خالد علي أو العوا، لكن جميعهم اتفقوا على إبطال الصوت أو عدم الذهاب للصناديق فى الجولة الثانية. وحسب جريدة «المصري اليوم» في تقريرٍ لها بهذا الخصوص فان «مواطنين بسطاء أصحاب ورش وسائقو تاكسى وباعة، أو نشطاء سياسيين معروفين على وسائل التواصل الاجتماعى رفضوا جميعاً الاختيار بين ما وصفوه بـ” السيء ” و” الأسوأ “، مُقررين انتظار فوز واحد من الاثنين، للدخول فى جولات معارضة سلمية قوية ضده، مؤكدين أن خطأ ما حدث فى الانتخابات وهو اللعب بشروط النظام السابق نفسها، وهو ما أفرز فى النهاية خيار هذا النظام: أنا أو الإخوان المسلمون، مُوضحين أن مصر بعد الثورة كانت تستحق اختياراً مدنياً لا عسكريا وألا يستخدم الدين فى ألعاب السياسة».
لكن لا المقاطعة ولا إبطال الصوت أثَّرا في النتائج النهائية، وهما وإن كانا تعبيراً عن موقف احتجاجي جدير بالتنويه، لأنه يعكس مقدار خيبة الأمل في الأمور، بعد المسار الذي اليه إندفعت، ألا انهما لم يخرجا بالاستقطاب الثنائي من إطاره، فباتت الأصوات الهائلة لهذه الكتلة الثالثة، التي قد تكون هي الأكبر في المجتمع، أصواتا مُهدرة، لم تجرِ الاستفادة منها في عملٍ ملموس، يؤدي الى خرق المسار المرسوم من اللاعبين الكبيرين: المجلس العسكري والأخوان.
أزمة مصر السياسية الراهنة هي التعبير الأكثر وُضوحا ودرامية عن غياب الكتلة الثالثة، الرافضة للاستبداد القديم، وللشمولية التي تنطوي عليها برامج الكثير من القوى الاسلامية في لحظة صعودها الراهن، وهي أزمة تتجلى في مختلف بلدان العالم العربي بنسبٍ تزيد أو تنقص، وبتجليات تتفاوت، قوة أو ضعفاً، بين بلد عربي وآخر، لا تظهر في لحظات التغيير الحاسمة فحسب، وانما في ظروف التطور المعتادة أيضاً، لتظل كابحاً جدياً بوجه أي اختراق جذري، حاسم، للمنظومة المهيمنة، التي تغير جلدها، لكنها هي نفسها لا تتغير.