المنشور

وللصين أيضا نصيب!


رغم ان الصين لم تتأخر عن الاستجابة لطلب العون الذي تقدم به الاتحاد الاوروبي والدول الاعضاء فيه فرادى للمساعدة في اطفاء حريق المديونيات الفلكية التي تورطت فيها عدة بلدان اوروبية، وكان موقفها ايجابيا للغاية في تقديم الدعم المالي للبلدان المعطوبة ماليا سواء بشكل منفرد أو من خلال الجهود الدولية المنسقة غبر صندوق النقد الدولي – رغم ذلك فان الماكينة الاعلامية الغربية لم تتوقف عن تطلعاتها ورهاناتها على حدوث تصدعات سياسية واقتصادية واجتماعية داخل الصين علَّها تُمكن الاقتصادات الغربية من اخراج الصين من سباق الزعامة العالمية بعد القضاء على تنافسيتها السلعية وجاذبيتها السوقية.
 
أخبار الصين وتتبع ما يجري فيها بنفس (بفتح الفاء) “الحرب الباردة”، سلعة لا تكاد تنقطع عن مختلف أجهزة الميديا الغربية التي لا تكل ولا تمل من عرض واعادة عرض ذات السلعة بذات النفس الكيدي المنتمي للحرب الباردة بنسختها المتجددة. وبما أن بريطانيا هي رائدة الحرب الباردة بتدشينها رسميا على يد رئيس وزرائها الأشهر ونستون تشيرتشل، فان ماكينتها الثقافية والاعلامية الرسمية لازالت محتفظة بتلك الروح الوثابة التي لم يفت من عضدها كل ما أُطلق من مبادرات ابان حمأة وطيسها بين الاتحاد السوفييتي ومعسكره والولايات المتحدة ومعسكرها ومنها ما سُمِّي في عقد سبعينيات القرن الماضي بالانفراج الدولي.
 
يوم الأربعاء 22 فبراير 2012 يُجري الصحفي المعروف بهيئة الاذاعة البريطانية بي.بي.سي. ماثيو بانيستر لقاءً مع أحد الصينيين من التبت المولود والمقيم في الهند. المقابلة استمرت حوالي 10 دقائق، تحدث الصيني “التبتي” خلالها عن محاولته احراق نفسه أمام السفارة الصينية في الهند. وكان صحفي البي بي سي ماكرا في اختيار أسئلته بدقة للحصول على مبتغاه، اذ سأله عن المواد التي أخذها معه الى مكان الانتحار، وعن معنى الفداء والتضحية بالحياة مقابل القضية التيبتية، بما يشي بتحريض آخرين على اتيان الفعل نفسه!
 
بدورها صحيفة “فاينانشال تايمز” نشرت مقالا في عددها الصادر الجمعة 27 ابريل/نيسان 2012 كتبه مراسل الصحيفة من بكين “جاميل اندرليني” رصد فيه بعقلية المنقب المتشكك لتطور حركة التنقلات والاحلالات داخل قمة هرم السلطة في الصين وتحديدا في الحزب الشيوعي الصيني الحاكم الذي لازال الغرب يعتبر ايديولوجيته العدو الاساسي لحرية حركة رأس المال العالمي. فلقد عمل كاتب المقال بشتى سبل التشويق والاثارة على تضخيم حادثة ابعاد “بو خيلاي” عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي الصيني ومسئول الحزب في مدينة تشونغكينغ (Chongqing)، وهي أهم مدن جنوب الشرق الصيني وأسرع مدينة نموا في العالم، على خلفية ما أُشيع عن تورط زوجته في جريمة قتل رجل الأعمال البريطاني نيل هيوود (Neil Heywood)، والاحالة، للتدليل على أهمية وبالونية الحدث، الى مصادر معلوماتية هزيلة من قبيل أصدقاء قريبين من بعض القيادات الحزبية (من دون أن يحدد ما اذا كانت قيادات مركزية أو مجرد مسئولين حزبيين صغار في المقاطعات)، وهي مصادر حرص على توزيعها بعناية فائقة على امتداد مساحة المقال، ولم ينس أن يضيف اليها مصدر غربي خدم في الصين مثل سوزان شرك (Susan Shirk) المسئولة الامريكية السابقة في ادارة كلينتون والخبيرة في السياسة الصينية وفقا لكاتب المقال.
 
ويصل التهويل مداه بمحاولة الكاتب الايحاء الى أن المؤتمر الوطني الثامن عشر للحزب الشيوعي الصيني الذي سيُعقد في النصف الثاني من العام الجاري وسيحضره 2270 مندوبا من اجمالي عدد أعضاء الحزب البالغ 80 مليونا، يمكن أن يقترب فيه من أسماهم بالاصلاحيين في الحزب مثل رئيس الوزارا “ون جياباو” (Wen Jiabao)، من طرح مستوى واسع النطاق من الاصلاحات ليس في مستوى “بيريسترويكا” غورباتشوف في الاتحاد السوفييتي السابق كما قال ولكنها مهمة. وحسبنا ان مجرد الغمز من القناة السوفييتية في هذا الصدد الى مقاربة الاصلاح الانهياري على الطريقة الغورباتشوفية يشي بحقيقة مكنون السقف الفوضوي الذي يتحرق الغربيون لأن تبلغه الصين في اصلاحاتها السياسية.
 
وعلى أية حال فاننا لا نخال كاتب المقال سوى مراسل صحفي متمرس يجيد أداء عمله على النحو المطلوب منه، أما الباقي والأهم فهو الذي تتكفل به الصحيفة التي انتدبته في مهمته الصحفية، والتي لم تتوان في توظيف رواية مراسلها كما ينبغي أن يكون عليه التوظيف من وجهة نظر الصحيفة ومن وراء الصحيفة، حيث أفردت للموضوع مانشيتا عريضا في صدر صفحتها الأولى وأعطته عنوانا مثيرا هو “سقوط بو (جياباو) يفتح طريق الاصلاح في الصين”.
 
وحيث ان كل حبكة المقال تم تركيبها على قضية ابعاد “بو خيلاي”، فقد اقتضى الحد الأدنى من الموضوعية الذي تحرص عليه عادة الصحافة البريطانية، الاشارة ولو هامشيا الى جزء من ملابسات مقتل رجل الأعمال البريطاني “نيل هيوود” وما أُشيع عن تورط زوجة القيادي الصيني في جريمة قتله، وذلك بتذييل المقال في نهايته باشارة عابرة ومقتضبة الى فحوى الخطاب الذي ارسله وزير الخارجية البريطاني وليم هيج الى مجلس العموم والذي نفى فيه ان يكون “نيل هيوود” جاسوسا بريطانيا يعمل لحساب الحكومة البريطانية، وانما رجل أعمال له علاقات خاصة مع السفارة البريطانية في بكين التي يتردد عليها بكثرة.
 
طبعا لا جدال في أن تمركز وتركز الحياة السياسية في الصين، حيث يهيمن حزب واحد على كافة مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ينهض سببا كافيا لاشاعة النمطية والاستبداد وقرينه الطبيعي الفساد. انما التجربة الصينية في الاصلاح تختلف عن التجربة السوفييتية، ففي الصين ومنذ أن دشّن دينج خياوبنج اصلاحاته خلال الفترة من 1978-1992 لم يعد هناك مكان للكهول الهرمين الذين لايفارقون عرش القيادة الا بسبب الوفاة كما حدث في الاتحاد السوفييتي السابق. وبفضل تلك الاصلاحات تحديدا تمكنت الصين من التحول بسرعة فائقة الى قوة اقتصادية عظمى.
 
على أية حال، فان ما تقدم هو فقط غيض من فيض الأخبار والتغطيات التي لا تتوقف الميديا الغربية، وخاصة الأمريكية والبريطانية، عن سردها والافاضة فيها بهدف الابقاء على الانطباعات السلبية والمنفرة عن الصين في الذهنية المحلية ومحاولة تثبيتها في الوعي الجمعي العالمي في الآن معا، وتسخير هذه المواقف السلبية في أعمال الضغط على بكين للحصول منها على مكاسب هنا وهناك. والملفت ان الصينيين المدركين تماما لهذه “الآلاعيب”، لا يبدو أنهم مكترثين كثيرا بها. فهم في الوقت الذي لا يتهاونون مطلقا مع أي عبث يمس أمنهم القومي، تجدهم منصرفين تماما نحو بلوغ هدفهم في السياة الاقتصادية العالمية بهدوء ومن دون اشغال أنفسهم بالدخول في “مجابهات سياسية بأدوات اعلامية ربما يرونها غير مجدية.
 
هناك اذاً..سباق واضح بين الصين وبين منافسيها الغربيين..تحاول خلاله الصين تسريع وتقصير الفاصل الزمني لبلوغها نقطة التتويج كقوة اقتصادية عظمى تتخطى منافسيها الاطلسيين.. فيما يحاول منافسوها الأطلسيون عرقلة هذا المسعى قبل أن تستتبعه الصين بتعزيز وتعظيم قوتها العسكرية.