لإ يكاد يمر يوم واحد الا ونجد من يظهر لنا من وزراء ومسؤولين يبشرنا باستراتيجية وتحت عناوين مختلفة، ولا ينسى هذا الذي يبشرنا ان يذكرنا اولا وبإلحاح بان هذه الاستراتيجية منطلقة او منبثقة او مرتكزة على رؤية البحرين 2030 ، التي بات الكل يدعي وصلا بها، وقد يذكرنا ثانياً بان بيوت خبرة عالمية كلفت بصياغة هذه الاستراتيجية او تلك من دون الإفصاح عن كلفتها ولو من باب الشفافية التي هي الأخرى يدعي الكل وصلا بها. وكأننا اصبحنا في حالة نفير لاستراتيجيات شتى وكأن الاعلان عن استراتيجية صار اسهل قرار تتخذه الوزارات والمؤسسات الرسمية، ولعلها مفارقة ان نجد ان الجهات الاكثر ولعا بالاستراتيجيات والتحدث عنها وعن خطط العمل هي التي عليها من المآخذات اكثر مما لها من الحسنات او نجدها عاجزة عن تنفيذ الاستراتيجية المتصلة بكبار السن التي بشرتنا بها وزيرة التنمية الاجتماعية وقالت عنها وبالنص: انها تركز على الاعتراف بمساهمات كبار السن ومشاركتهم في عمليات صنع القرار، «كيف، الله اعلم» لا هذه الاستراتيجية ولا تلك، ولا غيرهما من الاستراتيجيات السابقة واللاحقة والمقبلة يمكن ان يجزم لنا احد جزما قاطعا وثابتا بانها أدت الغرض منها، وبأنها استطاعت ان تغادر قفص التمنيات والتطلعات وبان ما انفق عليها من وقت وجهد ومال كان في محله وانها حقا ساهمت في تقدمنا بخطوات واثقة وثابتة الى الامام.
مغرمون نحن بالاستراتيجيات .. استراتيجيات في كل شان ومجال، والذين تبنوا استراتيجيات وأعلنوا عنها وقالوا فيها وعنها الكثير سعوا الى ايهامنا بانهم يسيرون في الطريق السليم، فيما هم يثيرون جوا من التساؤلات الباعثة على الحيرة عن حقيقة جدوى هذه الاستراتيجيات، وهل نحن بحاجة حقاً لهذا الكم من الاستراتيجيات؟ وهل تخضع هذه الاستراتيجيات لأي قياس حتى لا يكون وضعها هدفا بحد ذاته بدلا عن العمل والإنجاز الفعليين.
الاستراتيجية في ابسط تعريف تعني خططا ورؤية واضحة لأهداف محددة متوسطة وبعيدة المدى، وقيل بانها تعني علم فن التخطيط والتكييف وحسن الادارة، وقيل بانها فن توزيع واستخدام الموارد ومطابقة الهدف مع الإمكانيات، وقيل بانها تعني اصول القيادة بدون عيوب وتدبيرا رفيع المستوي وفكرا تخطيطيا فاعلا، كما أشير الى انها مجموعة من الافتراضات التي تنتهجها السياسة الإنمائية في الانتقال من مرحلة التخلف الى مرحلة النمو والتطور، وأخيرا وليس آخراً قيل بان الاستراتيجية هي الفن المنطقي لاستخدام القوى لتحقيق الإرادات.
لقد وجدنا وزارات ومؤسسات وهيئات رسمية تتسابق للإعلان عن استراتيجيات شتى تعقد لأجلها المؤتمرات وتنظم لها الاحتفالات وتصدر حولها التصريحات وتطلق من خلالها الوعود، ومن لم يعلن ويلتزم باي استراتيجية وجدناه يكشف عن لجان فنية او وطنية او ما شابه أنيط بها اعداد مشروع استراتيجية ومن لم يفعل ذلك اكتفى بالإشارة وبنوع من الزهو بانه كلف بيت خبرة عالمي بوضع استراتيجية في مجال من المجالات ولا يحتاج المرء لمزيد من الجهد ليكتشف ايضا بان كماً من الاستراتيجيات ومشاريع الاستراتيجيات قفزت الى الواجهة فجأة واختفت فجأة لا حس ولا خبر من دون من يتابع او يحاسب.
الاستراتيجيات التي اعلن عنها كثيرة، وعليكم الحسبة، فهناك استراتيجية لذوى الاعاقة، واستراتيجية لتطوير المدارس الحكومية واستراتيجية لخلق بيئة عمل آمنة بلا إصابات، واستراتيجية وطنية للشباب وأخري للطفولة وثالثة للمرأة ورابعة لحقوق الانسان وخامسة للتنمية الاجتماعية، وهناك استراتيجية للنهوض بقطاع التعاونيات، واستراتيجية لزيادة الواجهات البحرية، وأخرى للصحة والسلامة المهنية.
القائمة طويلة فهي تشمل أيضاً استراتيجية للوقاية من المخدرات واستراتيجية للتنمية السياحية وأخرى للتنمية الزراعية وثالثة لنظم المعلومات الجغرافية، ولا ننسى تلك الخطة الاستراتيجية التي اعلنت عنها وزارة البلديات والتخطيط العمراني وقالت بانها مبنية على عشر استراتيجيات رئيسية اعلن بانها تشكل مخططا واحدا للبحرين يعنى بتحقيق اقتصاد متخصص ويحفظ ويدعم موارد البيئة ويحمى التراث الثقافي والأثري وتشجير البلاد والاستدامة الخ ….
كما لا نستطيع ان نتجاهل ان هناك استراتيجية للبحث العلمي واستراتيجية للتنمية الادارية واستراتيجية لتطوير القرى واستراتيجية لتعليم المواطنة وحقوق الانسان وكذلك هناك استراتيجية للتنمية المستدامة واخرى لمكافحة الفقر والحبل على الجرار.
تلك عينة للاستراتيجيات التي قفزت الى الواجهة من كل حدب وصوب واحتلت مساحات في الصحف، وكلها تضاف الى مجموعة هياكل اخرى تحت مظلة «لجان وطنية» التي لنا بشأنها حديث اخر.
ليس أمرا سيئا ان تكون لدينا استراتيجيات وخططا نعي معناها ومقتضياتها واستحقاقاتها والالتزامات المترتبة عنها، وعندما تكون هذه الاستراتيجيات لها مردود وخطى للنهوض بالمجتمع وبقطاعاته المختلفة، وعندما تكون مبرمجة ومحددة بأفق زمني وخاضعة للقياس والمتابعة والمحاسبة عن التقصير والإخفاق في تحقيق الاهداف، ولكن السيء في الامر حين تكون هذه الاستراتيجيات مجرد بهرجة إعلامية واحتفالية خالية من المضمون ومنزوعة الدسم، وعندما تفتقر الى الرؤية الواضحة والالتزامات المحددة والمدى الزمني للتنفيذ، وتكون اقرب الى الشعارات العامة الفضفاضة البعيدة عن اي «ميكانيزم» ولا تؤدي الى خطوة فاعلة ملموسة في مسار الحياة العامة. بل تكون عبئا على الميزانية العامة وعلى الدولة والمجتمع والناس. يا ترى كم من استراتيجيات أنجزنا؟ وهل كل الاستراتيجيات التي اعلن عنها طبقت بالكامل وحققت النتائج المستهدفة؟ وكم من الاستراتيجيات اجهضت فكرتها وافرغت من مضمونها لأسباب شتى، ثم من هي الجهة التي تفصل في نجاح او فشل هذه الاستراتيجية او تلك؟ وما هو المردود والعائد الحقيقي من وراء هذه الاستراتيجيات وهل من رصد وسجل وتابع ووثق بموضوعية ومسؤولية وبمعايير معتمدة نجاح هذه الاستراتيجية او تلك؟ وهل حققت اهدافها وحدد اوجه الفشل والاخفاق؟، وهل المصروف من وقت وجهد ومال عام يتناسب مع مخرجات هذه الاستراتيجيات؟ وهل تترك كل وزارة ومؤسسة رسمية تتبنى متى شاءت وكيفما شاءت من استراتيجيات بعيدا عن اي تقييم او قياس او متابعة؟ وهل هذه الجهات امتلكت كامل الكفاءة والمقدرة والإمكانية والنزاهة والمقومات التي تجعلها تدير الاستراتيجيات بمنتهى المسؤولية والفاعلية.
من حقنا ان نطرح تلك التساؤلات ومن حقنا ان نحصل على الإجابات الوافية التي تشفى الغليل، ومن حقنا ان ندعو الى عدم جعل الاستراتيجيات بديلا عن العمل والإنجاز، ومن حقنا أخيرا ان ندعو المولعين بالاستراتيجيات ان يتوقفوا ويمعنوا في واقع الحال الراهن وما يزخر به من هواجس واحتقانات وخلافات وكيديات وخصومات تختبئ خلفها الفتن بكل انواعها لعلهم يدركون مدى حاجتنا اليوم الى خطوة فاعلة ومؤثرة، سموها ما شئتم من تسميات استراتيجية او رؤية او خطة او برنامج، المهم والأهم والاجدى ان تكون خطوة توقف هذا العبث الراهن الذى جعلنا آيلين للسقوط في المزيد من فخاخ الفرقة والانقسام والرعايات الطائفية التي يدعي انتهازيون كثيرون من كل جانب الى علاجها والتصدي لها ولكن بالمزيد منها فليتكرم المولعون بالاستراتيجيات ويسجلوا في جدول اعمالهم شيئا بهذا المعنى.
18 يونيو 2012