منذ سنوات التقيت، مرة، في لندن سيدة بريطانية تقدم بها العمر، وُلدت وعاشت طفولتها وصباها في الهند، لأن والدها كان ضابطاً في الجيش البريطاني هناك فترة السيطرة البريطانية على الهند، وأذكر أن السيدة التي يسكنها حنين مفرط إلى الهند، وذكرياتها الدافئة هناك، كانت تتكلم عن الهند كما لو كانت أرضاً بريطانية، وأنها كانت ويجب أن تظل كذلك.
تذكرت هذه السيدة حين قرأت ما رواه إدوارد سعيد مرة عن أن طالبة دكتوراه لديه، هندية الأصل، نبهته إلى قضية مهمة، حين لاحظت في أطروحتها الموسومة: «أقنعة الغزو» أن تاريخ الأدب الانجليزي ابتدأ تدريسه في الجامعات الهندية يوم كانت الهند تحت الاحتلال البريطاني، وليس في الجامعات البريطانية ذاتها، حيث يُفترض. فالمنطقي أن يتوجه الإنجليز نحو تعليم أبنائهم وبناتهم تاريخ أدبهم، ولكنهم لم يفعلوا ذلك في البداية، وإنما اختاروا أن يقوموا بذلك في جامعات الهند، قبل أن يجري تعميم الأمر في الجامعات البريطانية. استدل سعيد بهذه الحكاية لتعزيز أطروحته الأساسية في كتابه الشهير: «الثقافة والإمبريالية»، المبنية على أن الإمبراطوريات الاستعمارية الحديثة: البريطانية والفرنسية وفي وقت لاحق الأمريكية، اعتمدت على إعادة تشكيل أذهان شعوب المستعمرات بقبول الاستعمار بصفته ناقلاً حضارياً لها من التخلف إلى التقدم، من الهمجية إلى الحضارة.
ما كان يغيظ إدوارد سعيد في الدراسات التي اهتمت بكتابة تاريخ الاستعمار الحديث هو اهتمامها المسرف بدراسة التاريخ العسكري لهذا الاستعمار بصفته غزوات في نتيجته أوقع المستعمرون بلدانا بعيدة وشاسعة تحت سيطرتهم، وإغفال البعد الثقافي في الهيمنة على هذه الشعوب. لا يغفل سعيد أهمية القوة الغاشمة في إخضاع الشعوب وإكراهها وقمع مقاومتها، ولكنه ينبه إلى أن القوة وحدها لم تكن الأداة أو الأسلوب الوحيد الذي اعتمده المستعمرون لتحقيق مآربهم في بسط نفوذهم. فهو يحثنا مثلاً على ملاحظة أن الهند التي ظلت تحت الحماية البريطانية نحو ثلاثة قرون متواصلة، والتي كانت بالنسبة للإنجليز عن حق درة التاج الملكي، فإن قوة الجيش البريطاني كانت عند الحد الأدنى في أغلب الحالات خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار مساحة الأراضي التي كان الاستعمار يديرها ويحتلها. لفهم آليات الهيمنة في عالم اليوم، يجب أن نوجه النظر نحو البعد الثقافي، الذي هو في الجوهر قوة إكراه، لكنها مخملية الملمس.
17 يونيو 2012