باستثناء بعض غبار الشك الذي حاول بعض المراقبين الأوروبيين للانتخابات الرئاسية الروسية التي جرت يوم الأحد الموافق للرابع من مارس الماضي، اثارته، فانه يمكن القول ان الانتخابات مرت بهدوء من دون أن تعكر صفوها أية حوادث ذات بال، وفاز فيها من الجولة الأولى، كما أراد حزب روسيا الموحدة، فلاديمير بوتين بنسبة صريحة من أصوات الناخبين بلغت 63.60%. وبذا سوف يعود رجل روسيا القوي في الألفية الثالثة الى سدة الحكم من جديد تماما كما خطط لذلك من دون أن يضطر للتدخل والعبث بمواد دستور البلاد كما حدث ويحدث لدينا في المنطقة العربية حيث يجري التعامل مع الدستور (أبو القوانين) من قبل السلطات الحاكمة بخفة تحسد عليها.
وهذا يعني ان الغرب سوف يضطر من جديد للتعامل على مدى 6 سنوات ، هي الفترة الرئاسية المقررة في الدستور الروسي (قابلة للتجديد لمرة واحدة)، مع رئيس روسي يتميز بشخصية متشككة في نوايا الغرب الأوروبي والأمريكي تجاه بلاده وتجاه مصالحها الاقليمية والعالمية.
قد يكون فلاديمير بوتين أعاد هيكلة وبناء الدولة المركزية القوية على النمط الامبراطوري الروسي لما قبل ثورة اكتوبر الاشتراكية لعام 1971 والنمط السوفييتي الذي استمر منذ ذلك التاريخ زهاء 72 سنة، ولكنه أيضا وبمساعدة الظروف الاقتصادية العالمية المواتية، خصوصا أسعار النفط والغاز التي حلقت ابان ولايتيه الرئاسيتين السابقتين على ارتفاعات شاهقة، تمكن من اعادة “تثوير” الاقتصاد وخلق طبقة وسطى واسعة كانت السند والسبب وراء ازدهار شعبية الرجل وحزبه الحاكم. وهو ما أدركه الرئيس الامريكي باراك أوباما الذي سارع لتهنئة الرئيس بوتين بالفوز اعترافا بتلك الشعبية التي يتمتع بها والتي سيتعين أكثر على الأوروبيين التسليم بحقيقتها والتعامل مع زعيم روسيا القوي كأمر واقع حتى ولو لم يعجبهم ولم تعجبهم سياسته الداخلية خصوصا المتعلق منها بالطاقة والنفاذ الى سوقها الداخلي وسياسته الخارجية التي يعتبرها الغرب عائقا أمام حرية تصرفه في الشئون الدولية كيفما يشاء.
ولكنهم، أي الأوروبيين، قطعا لن يستطيعوا تحمل هذا خصوصا بعد أن غدت روسيا بفضل غزارة خاماتها واحتياطياتها الضخمة من النفط والغاز وفوائضها المالية، احدى الدول الرئيسية المنافسة للولايات المتحدة وأوروبا فيما يخص النفاذ الى الأسواق العالمية وذلك الى جانب كل من الصين والهند والبرازيل التي أنشأت في يونيه 2009 تحالف اقتصادي سياسي عالمي أسموه بريك (BRIC – وهي الحروف الأولى من أسماء الدول الأربع الأعضاء فيه: البرازيل وروسيا والهند والصين قبل أن تنضم اليهم جنوب افريقيا في ابريل من العام الماضي 2011).
وغنيٌ عن القول ان اليابان وكوريا الجنوبية تشكلان بدورهما تحدي تنافسي لا يقل عن التحدي الذي تشكله روسيا والصين، ولكن اليابان وكوريا الجنوبية هما حليفتان استراتيجيتان – ولو اكراها – للولايات المتحدة، حيث لازالت فرق من أفرع القوات المسلحة الامريكية تشغل جزءأ من أراضي هاتين الدولتين، وبالتالي فان مواقفهما في الشئون الدولية وتصويتهما على القرارات التي يدفع بها الغرب في الامم المتحدة وبقية المنظمات الدولية، مضمونة. أما روسيا، وكذلك الصين، فهما دولتان تنهجان ما يوافق مصالحهما أولا، الأمر الذي يضعهما في غالب الأحيان في تضاد مع الولايات المتحدة وحليفاتها الاوروربيات الغربيات.
وهذا ما يدعونا للاعتقاد ان روسيا فلاديمير بوتين قد حلت محل الاتحاد السوفييتي المنهار “كهدف كبير” على الاجندة التي سوف يسعى التحالف الامريكي الاوروبي الغربي لاسقاطها. بل يبدو ان عجلة هذه “العملية الخاصة” قد وُضعت على السكة فعلا. فبخلاف تصريح جون ماكين، الصقر الجمهوري الذي نافس الرئيس أوباما على منصب الرئاسة في الانتخابات الأخيرة، والتي كان أدلى بها في بنغازي في ذروة نشوة نجاح حلف شمال الاطلسي في التخلص من نظام القذافي، وقال فيها ان الدور سيأتي على روسيا والصين (ولم ينس سوريا بطبيعة الحال) – بخلاف ذلك هناك استمرار لغة الحرب الباردة المتسمة بالكيدية الفاقعة في الميديا الأوروبية والأمريكية المحرضة والمسلطة الأضواء بصورة شبه يومية على الجوانب السلبية في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية الروسية. وهناك العمليات السرية الجاسوسية وغير الجاسوسية التي تتخذ أشكالا مختلفة، حيث كُشف النقاب مؤخرا عن نجاح المخابرات الروسية في احباط أكثر من سبعين عملية تجسس داخل روسيا قامت بها في العام الماضي أجهزة مخابرات أجنبية هي في معظمها غربية. وهناك اللعب على ورقة الحساسيات القومية للدولة الفدرالية الروسية، بما يشمل ذلك تقديم الدعم السري للجماعات الارهابية في الشيشان وداغستان وأنغوشيا بهدف زعزعة استقرار الدولة والهائها عن أداء مهامها التنموية وممارسة دورها الكامل والفاعل في الشئون الدولية.
الآن.. هل هذا يعني ان لدى حلف شمال الأطلسي هدف تحوَّل أو قابل أو جاهز للتحول الى خطة تتوفر لها الموارد المالية والبشرية والفواصل الزمنية (اذا ما كانت الخطة ستُنفذ على مراحل) لاعادة اضعاف روسيا وادخالها في الفوضى في تكرار لسيناريو انهيار الدولة والنظام السوفيتيين، بما يفضي الى التخلص من منافس عنيد وقدير ويُمَكِّن من سهولة الاستحواذ على أنصبة معيارية من خيراتها الهيدروكربونية والمعدنية الوفيرة؟
لا أحد بالتأكيد يعلم عن الأجندات السرية للدول وعن مخططاتها الاستراتيجية اللهم ربما بعض المعلومات غير المكتملة وغير الموثوقة المتوفرة لدى الأجهزة الأمنية المعنية بحماية الأمن القومي. انما الأكيد ان اضعاف روسيا وان اقتضى الأمر تشجيع انقساماتها القومية (ماديا وسياسيا واعلاميا في اللحظة التاريخية المناسبة)، هو هدف قائم وقادم أيضا، وذلك برسم التيقن الروسي من أن من غير المتصور أن يكون الاندفاع المحموم لواشنطن وحلفائها الأوروبيين لمحاولة تغيير الخريطة الجيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط، مقطوع الصلة عن “الجوائز” الأكبر في الاقليم الأوروآسيوي وتحديدا روسيا وكذلك الصين التي صارت تعدها “خزانات الأفكار” (Think Tanks) الامريكية الشهيرة بصوة متزايدة كأكبر تحدي معادي للولايات المتحدة. ولعل الردود القوية والمحسوبة التي اتخذتها الدولتان مؤخرا في شأن عدد من القضايا لخلافية الدولية مع المعسكر الغربي، تشي بأن قيادة الدولتين تدركان الأهداف النهائية للسيناريوهات التي يجربها الأمريكيون والأوروبيون لاحداث تغيير جيوسياسي شرق أوسطي نوعي مُتوافق مع مصالحهم.
وبما ان الراجح أن يتوجه الاستهداف صوب الهدف “الأسهل” فان روسيا قياسا للصين، هي المحطة الأكثر ترشيحا لهذا الاستهداف. انما السؤال الذي يطرح نفسه هاهنا: وهل روسيا رخوة الى الحد الذي يغري المتربصين لأن يطمعوا في “مشهياتها”؟.. واذا كانت رخوة بالفعل فالى أي حد هي كذلك؟.. وهل هي قابلة، ترتيبا، للاختراق والكسر؟
هذه بالتأكيد قضية أخرى تحتاج الى بحث وتحري دقيق مُدَعّم بالقرائن المساندة.