ظل الغاز يؤدي دور الوصيف الثالث كمصدر للطاقة التقليدية الاحفورية بعد النفط والفحم سواء في تأمين جزء من الطلب المحلي من امددات الطاقة اللازمة لادارة عجلة الاقتصاد الانتاجي والاستهلاكي، أو في امداد الأسواق العالمية. ومع ان أسعار الغاز الطبيعي، كبقية أسعار السلع، تتحدد على ضوء أساسيات العرض والطلب، الا ان أسعار الغاز الطبيعي يمكن – أو هكذا يُفترض – ربطها بسعر النفط الخام والمتجات النفطية خصوصا في القارة الأوروبية المستهلك النهم للغاز.
وقد بقيت أسعار الغاز العالمية مستقرة لفترة طويلة عند مستويات منخفضة قياسا لأسعار النفط التي غادرت المستويات المتدنية (حوالي 3 دولار للبرميل) اعتبارا من منتصف سبعينيات القرن الماضي من خلال عدة عمليات تصحيح أوصلت سعر البرميل الخام من النفط اليوم الى ما فوق حاجز المائة دولار. فعلى سبيل المثال استمرت أسعار الغاز شبه ثابتة عند حوالي 4 دولار في المتوسط لكل مليون وحدة حرارية بريطانية “British Thermal Unit – BTU” (المليون وحدة حرارية بريطانية عبارة عن حجم الطاقة اللازم لتسخين أقل قليلا من نصف كيلوغرام (0.454 كغ) من الماء، أي بالضبط ما يوازي واحد على عشرة “عُشر” الجالون الانجليزي وبما يصل الى ما يتراوح بين 3.8 و 4.4 درجة مئوية) خلال الفترة الممتدة من عام 1990 الى عام 2000، تراوحت خلالها ما بين 1.05 دولار لكل مليون وحدة حرارية بريطانية في عام 1992، وهو السعر الأخفض للغاز، و حوالي 4 دولار و 7 دولار خلال الفترة من يناير 2000 الى يونيه 2001. كان هذا في أسواق العقود الآجلة، وفي الأسواق الفورية، في محطة هنري للتحميل بالولايات المتحدة على سبيل المثال، وصل السعر الى حوالي 11 دولارا.
وهكذا تكون أسعار الغاز العالمية قد ارتفعت بشكل درامي في عام 2000 وظلت محافظة على زخمها الصعودي حتى النصف الأول من عام 2001 وذلك بسبب ارتفاع الاستهلاك العالمي من الغاز وتراجع طاقة انتاجيته في الولايات المتحدة. ولكن وبمثل صعودها الدرامي انهارت الأسعار سريعا خلال فترة وجيزة (من سبتمبر الى نوفمبر 2001) الى ما دون دولارين لكل مليون وحدة حرارية بريطانية. وعادت الأسعار لتتخذ منحىً صعوديا من جديد ووصلت الى ذروتها في ديسمبر عام 2005 اذ بلغت 15.35 دولار، مع أهمية الملاحظة هاهنا بأن الأسعار سبق وأن طاولت هذا المستوى وكان ذلك في الثاني من فبراير عام 1996 حيث بلغ السعر 14.50 دولار وذلك بسبب موجة برد فجائية ضربت القسم الغربي من الكرة الأرضية لاسيما عبر الأطلسي. وخلال الشهور المنصرمة تدهورت أسعار الغاز من حوالي 7 دولارات في شهر يناير 2011 الى حوالي دولارين ونصف الدولار للعقود الآجلة تسليم نهاية العام الجاري (بحسب مجموعة بلومبيرغ).
وللمقارنة فقط، فانه في الظروف الاعتيادية كان متوسط النسبة والتناسب بين الغاز والنفط على أساس مقياس مليون وحدة حرارية بريطانية هو 1:6، أما اليوم حيث يباع الغاز بسعر حوالي دولارين ونصف الدولار مقابل أكثر من مائة دولار لبرميل النفط فقدت غدت النسبة التناسبية 1:37.
وكان التكالب على الثروة الجديدة الصاعدة في عالم الطاقة، خصوصا في الولايات المتحدة، ونقصد بها غاز المكامن الصخري أو السِجِّيل الغازي (Shale gas) من جانب الشركات المحلية النفطية الأمريكية المسماة بالشركات المستقلة (Independent oil and gas companies) لتمييزها عن الشركات النفطية العالمية (IOCs) وشركات النفط الوطنية للدول النامية (NOC)، قد أدى الى حدوث تخمة غازية أفسدت مخططات الدول الرئيسية المنتجة والمصدرة للغاز في العالم التي أطربتها نشوة الصعود التاريخي لأسعار الغاز فعقدت في طهران في عام 2001، أي ابان طفرة أسعار الغاز العالمية، أول اجتماع لها لتأسيس منتدى منتجي ومصدري الغاز في العالم على غرار منظمة أوبك، حيث حضره مندوبون عن 11 دولة هي روسيا وايران وقطر والجزائر وليبيا وفنزويلا ومصر وبوليفيا وغينيا الاستوائية ونيجيريا وترينيداد وتوباغو، على اعتبار أن هذه الدول تتوفر على 70% من احتياطيات الغاز في العالم وتستحوذ على 38% من خطوط أنابيب نقل الغاز الطبيعي وتضطلع بحوالي 85% من انتاج الغاز الطبيعي المسال (LNG) في العالم.
والحال أنه وبالعودة الى التاريخ الاقتصادي لاقتصاديات الطاقة سوف نجد أن عقدي 1050-1970 من القرن الماضي قد شكلا ما يمكن أن نطلق عليه بعصر النفط الرخيص، حيث حوَّل الكثير من محطات توليد الطاقة والمنشآت الصناعية مصدرها الطقوي من الفحم الى النفط، ولم يتوقعوا أن تحدث فيما بعد الصدمات النفطية التي أجبرت أسعارها المرتفعة قسما منها على العودة ثانية للفحم.
وهذا ما دفع الكثيرين للاعتقاد، كما أسلفنا، بأن عصر الغاز الرخيص قد انتهى على غرار ما آل اليه النفط، بعد أن راحت أسعار الغاز ترتفع رويدا رويدا مع توجه الكثير من الدول للاعتماد على الغاز في توليد الطاقة ابتعادا عن النفط وأسعاره الجامحة وعدم كفاية الطاقات الفائضة (Spare capacities) من النفط أكثر منه لدواعي التوافق مع المعايير والمتطلبات البيئية العالمية المستجدة والمتصاعدة.
بيد أن سعر الغاز اليوم العائد الى ما قبل مستوياته الخفيضة ما قبل الجموح ربما يُجبر بعض منتجيه من الشركات النفطية الامريكية المستقلة – وهي في الغالب شركات صغيرة – على ترك وهجر مواقع تنقيبها الغازية (Well abandoning) هذا العام بسبب ارتفاع كلفة الانتاج في المواقع “التعدينية” التي استأجرتها لغايات التنقيب قياسا للتدفقات النقديـة الداخليـــة (Cash flow) للحقول الغازية محل التنقيب. ولا تكمن علة انهيار أسعار الغاز في عدم كفاية الطلب عليه أو الى دخول الغاز الصخرى الى سوق مصادر الطاقة العالمية على الرغم من أهمية هذا المتغير الجديد في احداث الفارق خصوصا بالنسبة للولايات المتحدة التي عوضها هذا الغاز المكتشف عن دفع فواتير استيراد غازية باهظة، وقلل بالتالي طلب أكبر مستهلك لمصادر الطاقة الاحفورية في العالم على الغاز. العلة تكمن، على ما نزعم، في عدم توفر الدعم اللوجستي لتصريف هذه السلعة ذات مواصفات النقل الخاصة في الأسواق العالمية ذات الطلب العالي على الغاز مثل الأسواق الآسيوية التي تدفع اليوم حوالي 15 دولارا مقابل استيراد كل مليون وحدة حرارية بريطانية. ذلك أن الصناعة الجديدة لغاز المكامن الامريكي لم يُسعفها الوقت بعد لمواكبة ذلكم الانتاج الضخم والمفاجىء لغاز المكامن بانشاء البنية الأساسية لهذه الصناعة ومنها على نحو خاص شبكة أنابيب نقله الى مواقع التصدير الملائمة ومحطات معالجته (تحويله من حالته الغازية الى سائل أي تسييله ليصبح غاز طبيعي مسال LNG) لتسهيل نقله أي تصديره بواسطة ناقلات الغاز المصممة لهذه الغاية. ولعل هذا ما يفسر تزايد قائمة محطات استقبال الغاز المسال المستورد المقدمة للسلطات الامريكية والتي تطلب التحول الى محطات لتصدير الغاز الطبيعي المسال، ولا يُتوقع أن يحدث هذا قبل عام 2015، حيث ستتحول حينها الولايات المتحدة ربما الى أكبر مصدر للغاز في العالم، اذ انها يمكن أن تصدر حوالي 17% من انتاجها من الغاز. واذا ما حدث هذ التحول (Shift) بتنفيذ هذه المشاريع فان الولايات المتحدة قد تغدو أكبر مصدر للغاز الطبيعي المسال في العالم بحلول عام 2020. انما السؤال: هل هذا “الفتح” – ان جاز التعبير – البنيوي التحتي لصناعة الغاز العالمية، يكفي وحده لاعادة أسعار الغاز العالمية الى اتجاهها الصعودي الذي اتخذته في عام 2000؟
في الحلقة القادمة من هذا الموضوع الحيوي لاقتصادات الطاقة سنحاول الاجابة على هذا التساؤل.