هل يكون العالم العربي قد أدخل نفسه في مرحلة التيه الحضاري التي يصعب تحديد مداها الزمني، وذلك بسبب فقدانه اليقين في مواكبة الحداثة والمعاصرة (بفتح الصاد) المتمثلة في المنجزات المتعددة الأوجه للمسيرة الحضارية العالمية، وتفضيله خيار الماضوية أو “الأصالة” كما يحلو للتيار العريض من حركات الاسلام السياسي أن يعنون هوية التشكيلة الاقتصادية والاجتماعية التي يريد التأسيس لها؟
تكاد تكون مآلات ثورات “الربيع العربي” في بلدان “المنشأ” متشابهة الا في بعض التفاصيل الصغيرة التي تفرضها بطبيعة الحال موضوعية بعض الخصوصيات المحلية الخاصة بكل قطر وبطاقاته وامكاناته الذاتية، حتى لتكاد خريطة تصنيف واصطفاف القوى الاجتماعية، الأوَّلية والثانوية، متماثلة، وذلك برسم نتاجات الحصاد التي أسفرت عنها الثورات في بلدان “الربيع”.
لنأخذ مصر على سبيل المثال، ومصر تكاد تختزل المشهد في بلدان “الربيع”. هنا، في الحالة المصرية التي نحن بصددها، سوف يكون من الصعب القطع بأن مصر قد اجتازت مرحلة انتقالية من النظام السابق الى النظام الجديد الذي قامت من أجله الثورة، ذلك أن الأقرب الى الواقع هو أنها اجتازت عملية تأمين منظمة بعناية فائقة لاعادة انتاج وعودة النظام السابق الى السلطة. فلم تكن هناك حكومة انتقالية ممثلة للثورة وللقوى الاجتماعية والنخب المشاركة فيها تعمل على احداث تلك النقلة (بين النظامين). فلقد بقي النظام السابق مسيطرا على السلطة التنفيذية (الحكومة) والقضائية وعلى كافة الأجهزة العسكرية والأمنية وعلى أجهزة الاعلام التي لم تنقطع سوى لأيام معدودة فقط (ابان الأيام التي اعقبت خروج رأس النظام السابق من السلطة) عن الهجوم على الثورة وتسفيهها وازدراء وتسقيط قياداتها وقواعدها بمزاعم شتى تبدأ من نشر الفوضى ولا تنتهي بتهم الارتباط بالخارج، والدفاع في ذات الوقت عن النظام السابق.
فكل القوى التي أُوكلت اليها أو تلك التي فرضت نفسها “وصيةً على العرش” بعد تنحية رأس النظام السابق، مهمة تسيير شئون الحكم، كانت، ولازالت، محسوبة على النظام السابق الجامع بين شرور توأمي الاستبداد والفساد، المعروفة محصلتهما الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية الاضمحلالية سلفا.
فكيف لهذه البنية السياسية الادارية الكلية الهشة والمعطوبة بفعل ثلاثة عقود ونيف من النزف المتواصل ان تتصدى لمهمة اخراج الدولة والمجتمع من أزمتهما الخانقة واعادة بنائهما تجاوزا لتركة “الوأمين” (الاستبداد والفساد) الثقيلة؟!
وهل يكون “حصاد” هذه العملية “القيصرية” المعدة والمخرجة ببراعة وتفتقات عقلية الاجهزة اياها، سوى تلك النتيجة الصادمة والمحبطة لكل الذين راهنوا على بزوغ فجر مصري جديد..مرشح الاخوان ومرشح “حزب” النظام السابق الى الدور الثاني من أول انتخابات رئاسية بعد ثورة 25 يناير؟!
لقد كان أمام الناخب المصري خيار ثالث غير خيار محمد مرسي وحزبه (مع كامل الاحترام لهما) اللذين وظفا الدين للوصول الى سدة الرئاسة وخيار شقيق و”حزبه” المتغول في السلطة اللذين وظفا الدولة ومؤسساتها العسكرية والأمنية والاقتصادية لنفس الهدف.
ولكن مزاج الشعب المصري في تلك اللحظة التاريخية التي كان يفترض فيها أن تكون فاصلة بين عهدين..عهد قيد الرحيل وعهد قيد البزوغ، اختار – ويا للمفارقة – التيه، امعانا، ربما، في الحالة الاكراهية التي شعر انه يُؤخذ الى حتفها والغوص في دوامتها، فلم يشأ الشذ والحيد عن سراط ذلكم السياق المتوالي دراميا للاحداث، ولم يشأ، ترتيبا، عدم الاتساق مع المآل الحتمي لخواتيمها التي صرنا نعرفها جميعا.
فما الذي حدا بحوالي 55% من الناخبين المصريين عدم التوجه الى صناديق الاقتراع في الجولة الاولى من أول انتخابات رئاسية في تاريخ مصر الحديث (23-24 مايو/ايار 2012) يُفترض أن تكون حرة ونزيهة لا يدانيها كابوس التزوير المزمن (كان متوسط نسبة الاقتراع في انتخابات مجلس الشعب بجولاتها الثلاث 60%)؟..وما هي دلالات هذا العزوف الجماعي عن المشاركة فيما يُفترض، أيضا، أن يكون عرسا انتخابيا انجزته الثورة – أو هكذا يُفترض – بشجاعة شبابها المقدام الذي كان أول من تقدم الصفوف لكسر سلاح الاستبداد الأثير: حاجز الخوف؟
هل هي حرارة الطقس كما ذهب البعض في تأويلاته(!)؟ أم هو احباط الشباب المصري أم احباط الناس جميعا؟
حقا انها لتداعيات غريبة، فلكأن الثورة لم تمر من هنا! قبل هذا أتذكر بحسرة كيف ان مصر الثورة، مصر 25 يناير هي من اسقطت رمز وطني كبير في انتخابات مجلس الشعب التي سيطر فيها الاخوان والسلفيون على السلطة التشريعية، وأعني بذلك جورج اسحاق الذي كان أول من أدار حملة توسيع الكوة التي فتحها أيمن نور رئيس حزب الغد في جدار الاستبداد بالسلطة وذلك بقيادته لحملة الكتور محمد الرادعي لاحداث التغيير في مصر!
وتزداد الحالة التباسا، وقد انعقد لسان الناس من دهشة النتيجة الصادمة التي خلفها الاستحقاق “الثوري” الأول منذ اطاحة رأس النظام، فتحركت مشاعر السخط لتنصب في قوالب فكاهية بكائية حانقة، تعبيرا عن شبح التيه اللائح في افق اللاوعي الجمعي، لعل أكثر ما تُكثفها وتختزلها من دون اخلال، كلمات اللوعة الحانقة التي شاعت وانتشرت عبر شبكات التواصل الاجتماعي حال اعلان النبأ/الصدمة: “جيل عاش طول عمره ظالمنا بسكوته جاي النهارده يموتنا بصوته”!