ندين في حياتنا لبعض من الصدف إذ تكون منعطفاً في المسار لم نكن نحسبه ولم تكن لنا ارادة فيه. في العام 1960 وكنت طالبا أنهيت الصف الثاني من الثانوية وانتقلت الى الصف الثالث، كان عليّ أن أختار التخصص الذي أريد فكان اختياري لقسم المعلمين. وفي بداية العام الدراسي حصل خطأ في تسجيلي فأدرج اسمي في لائحة الطلبة المنتقلين الى القسم العام علمي، وفي لائحة أخرى وُضعت مع طلبة القسم التجاري. وحتى يتم تصحيح الخطأ تعين علي الانتظام في أحدهما مؤقتا، فاخترت كرسي الدراسة في القسم التجاري لأن الصف احتوى مكتبة صغيرة. هناك كان عبدالله العباسي الذي انتبه الى اهتمامي بالكتاب فتقرب مني وعرض تزويدي بما أريد من كتب، فكانت بداية صداقة ومسيرة. تلك الأيام كان الشغف بالقراءة والمعرفة طابعا عاما لدى الجيل الشاب في مرحلة المد التحرري في المنطقة العربية وارهاصات البعد الاجتماعي والطبقي في التحولات الوطنية والحركات الثورية. وكانت الحركات السياسية السرية تنشط وتبحث عن مناصرين وأعضاء وخاصة في الوسط الطلابي، وكان للكتاب دوره التنويري والتربوي الحاسم.
الكتاب الأول الذي أتى به العباسي كان للكاتب الروسي أستروفسكسي”والفولاذ سقيناه” الذي لعب دور السحر بالنسبة لي وأوغلني في قراءة مرحلة فاصلة في التاريخ الروسي والانساني، دشنتها الثورة الاشتراكية الاولى واقترنت في بداياتها بالحرب الاهلية والتدخل الاجنبي لاجهاض الثورة، والخطوات الاولى للبناء. كارجاغين بطل الرواية – السيرة الذاتية للمؤلف – يلتحق بالشبيبة «الكموسمول» يقاتل في صفوف الثوار، ثم ينضم الى فرق بناء سكك الحديد، في ظروف روسيا القاسية والعمل اليدوي والاوبئة والحرب الاهلية الطويلة، في لوحة رائعة لخليط من التراجيديا والالم والفرح والايمان بالفكر والمستقبل والصراع بين قسوة الطبيعة وظلم البشر وبين ارادة البناء والتغيير بفكرٍ موضوعه الانسان وحريته وحلمه في وطن عادل خال من الاضطهاد بكل مظاهره.
يصاب كارجاغين بأمراض عدة، كالعديد من رفاقه، بسبب سوء التغذية والاجهاد في العمل والقتال والاوبئة وينتهي به الامر الى فقدان البصر والعجز ولكنه يواصل معركته بالكتابة وينجز روايته الشهيرة بمساعدة رفيقة حياته، ويتحول الى رمز وقدوة للشبيبة الذين كانوا يترددون عليه لينهلوا من تجربة جيله التي قلما تتكرر.
كان للرواية وقع خاص بالنسبة لي، أنا الذي عرفت الحرمان والفقر الى درجة البؤس فانحزت دون تردد الى الادب الذي يسبر غور قاع المجتمع نحو الانسان بهمومه وأحلامه، وينشر وعياً يرفض قيود التخلف والاستغلال.
ربطني هذا الكتاب بالعباسي الذي استمر في امدادي بالكتب ومنها مؤلفات مكسيم غوركي وجورج حنا وعبدالرحمن الخميسي وعبدالرحمن الشرقاوي وحنا مينه وسلامة موسى. كنا نقضي وقتا طويلا في القراءة بالمجلس الملحق ببيت والده محمد صالح العباسي في الحورة وكنت حينها مقيما في المنطقة ذاتها مع والدتي وأخي ابراهيم ونستأجر غرفة عند عائلة تستأجر بدورها منزلا صغيرا من المرحوم حسن تلفت.
كان الوقت يمر سريعاً لاننا كنا نقرأ دون توقف. وعرفني العباسي على المكتبة العامة فأخذنا نستعير الكتب و نقرأ. لم أكن حينها أعرف شيئا عن انتماءات العباسي السياسية والتنظيمية الى أن حذرني أحد أبناء الحورة، ونحن في طريق عودتنا من المدرسة ذات يوم، من أن العباسي شيوعي ومن الأحسن الابتعاد عنه. أثار هذا الحديث فضولي واهتمامي ورددت على محدثي، الذي عرفت فيما بعد أنه من حركة القوميين العرب، وكان يحاول جذبي نحو الحركة، بأن هذا ليس سببا لأن أبتعد عن صديق بهذه الاخلاق الحميدة.
وفي الواقع فإن عبدالله العباسي كان انسانا كريما، شفافاً صادقاً ومبدئيا وجريئا. بدأت ألح على العباسي أن يفسر لي معنى الشيوعية فكان يحاول دون أن يتخلى عن حذره الذي تميز به المناضلون في العمل السري، وبدأ باحضار بعض الكتب النظرية بعد أن طغت الرواية والقصة على قراءاتي. كانت الكتب تأتي من مكتبة الجبهة الموزعة في بيوت الأعضاء، ويتم تداولها سرّا كما المنشورات «الجماهير والشرارة». استمر تواصلي مع العباسي ما يقرب من السنة الى أن ارتبطت بأول رابط في جبهة التحرير الوطني بعد قبول عضويتي فيها، فكان لزاماً، بحكم العمل السري، عدم الالتقاء مع المعرف والانخراط في علاقات جديدة لمصلحة العمل الوطني، لكننا اعتقلنا سوية في العام 1962 في تظاهرات الثانوية دعما للثورة الجزائرية ونقلنا معا في سيارة جيب الى سجن القلعة لنوضع في زنزانة واحدة مع عيسى البنعلي وسيف أحمد سيف الفلاسي وكلاهما من مدينة الحد ويدرسان معنا في المدرسة.
كان اللقاء التالي في العام 1966 حين كنا مع المرحوم الرفيق أحمد الذوادي ويوسف العجاجي في زيارة خاصة الى القاهرة، وكان العباسي طالبا فيها ويقطن في حي روض الفرج الشعبي الشهير في شقة من غرفة واحدة، وكنت أتردد عليه في بعض الأحيان. ثم افترقنا حتى عودتي من الغربة مع العفو العام و بداية المشروع الاصلاحي في العام 2002، فوجدت العباسي مريضا بالسكري والبدانه وخارج النهج الفكري والسياسي الذي كان له الفضل الاول في انتمائي اليه.
عبدالله العباسي، المفعم بالطاقة وحب الوطن والشعب، البسيط والمباشر في نقده، الرافض للطائفية السياسية، سيبقى في ذاكرة الجيل الذي عاصره مناضلا وطنيا صلبا عمل بشجاعة في صفوف الجبهة في مرحلة من أصعب مراحل العمل الوطني. العباسي الذي عرفته كان مكونا من مكونات الجبهة والحركة الوطنية بعنفوانه وصلابته و لا يجوز إغفال عطاء أمثاله وإن افترق خط سيرنا اللاحق.
7 يونيو 2012